ع م- القاهرة 

ابني في الصف الثالث الثانوي، وفي العام الماضي حصل على مجموع ضعيف رغم تفرغي له وتلبية جميع طلباته لكي يذاكر، وهذا العام يرفض الدورس الخصوصية، وفوجئت به يترك المدرسة ويعمل، حاولت معه كثيرًا ليرجع لدراسته دون جدوى، ووالده يحمّلني ذلك ويقول تربيتك، فماذا أفعل؟ وأنا الآن أعاني ارتفاع ضغط الدم بسببه؟

 

يجيب عليها الدكتور أسامة يحيى- استشاري اجتماعي (إخوان أون لاين):

 

حمدًا لله تعالى وصلاة وسلامًا على المبعوث رحمة للعالمين وبعد..

 

مشكلتك مركبة، وهي على قلة كلماتها إلا أنها كشفت أخطاء تربوية فادحة منها:

 

تفرغت له.. فاستحوذ ولدك على حياتك وانشغلت به عن نفسك، وتركت كل ما هو دونه خلفك، ومنهم زوجك بالطبع، ووضعت كل أملك فيه.. فتركت من أجله واجبات ومهام كثيرة وكبيرة، وكأنه ليس لك عمل إلا هو.. إن وضع الأمل في مجال واحد حتى ولو كان مستقبل الابن هو بمثابة وضع البيض كله في سلة واحدة؛ فإذا لم نصل إلى مرادنا في هذا المجال الواحد نالنا الإحباط واليأس والحيرة وأصابتنا العلل والأمراض، كما حدث معك.

 

لبيت كل طلباته وفعلت له كل ما يريد ومهدت له السبل وذللت له الصعاب ليتفرغ للاستذكار، وفي هذه التلبية وذاك التمهيد والتذليل إفساد وتدليل، يدفعه ليكون فتى اعتماديًّا لا يتحمل مسئولية ويلهث وراء رغباته وتطلعاته، كما يجعله عتيًّا صعب الانقياد لا ينصت إلى نصح ولا يستمع إلى توجيه.

 

يحملك والده مسئولية تربيته.. وكأن تربية الأبناء مناط بها الأم فقط.. وكأن واجب الأب ينحصر في جلب المال وتوفير احتياجات البيت المادية وكفى.. وفي هذا تقليص مخل لدوره التربوي سيؤدي- في الغالب- إلى عواقب مريرة؛ فالمراهق في مثل هذا العمر يحتاج إلى جوار أبيه ورأي أبيه وحكمة أبيه وفكر أبيه أكثر من حاجته لأمه.

 

لقد كان يحتاجها أشد الاحتياج إبان طفولته ولكن الوضع الآن تبدل عندما صار مراهقًا بالغًا، ولذا يجب اتفاقك مع والده على أساليب تربية ابنك بحيث يتم توزيع الأدوار والمهام والمسؤوليات بما يتناسق مع والده كرجل ومعك كامرأة، فلا تكلف المرأة بأدوار الرجال، ولا يكلف الرجل بأدوار النساء، إلا لضرورة طارئة قاهرة كما يتم توزيع الأدوار والمهام والمسؤوليات بما يتفق مع إمكانياتكما وقدراتكما وظروفكما.

 

إن ترك زوجك الحمل كله عليك قد يكون سببه: 

 

ضعف أو عدم قدرته على تحمل المسئولية كأب كما ينبغي، فقدراته وامكانياته أقل من المطلوب.. وهذا أمر قليل الحدوث.. ولا يرجى من ذلك الأب الكثير قبل تأهيله للقيام بمسئوليات الأبوة وتبعاتها.

 

أو أن هناك ما يشغله دومًا، كالاندماج في العمل للوصول إلى مناصب أعلى أو البحث المستمر عن لقمة الخبز والسعي الدءوب لجلب المال اللازم للانفاق على البيت، وهذا أمر للأسف شائع الحدوث، ولكن يمكن تنظيمه أكثر بشيء من إعادة ترتيب الأولويات والتدرب على التوازن بين متطلبات البيت ومتطلبات تربية الولد، ووجوب مكث الأب مع ولده وقتًا مناسبًا ممتعًا ليشاركه حياته بجل أنشطتها مرها كالاستذكار، وحلوها، كاللعب معه، فيضفي هذا المكث الجميل على حياتهما روعة، ويحقق اندماجًا وانسجامًا خلابا، فيسهل كثيرًا على الولد طاعة والده.

 

أو اعتقاد زوجك أن العناية بالولد وتربيته من صميم دورك كأم دون الأب، فترك جل عبء تربية وتعليم ابنك عليك، وألزمك بالاضطلاع بمهمة العناية به من جميع مناحي الحياة بدرجة فاقت قدراتك وإمكانياتك، وهذا الاعتقاد خطأ فاحش لا يرجى من ورائه نفع، كما لن تصفو حياة تحت نيره.

 

أو أنك رأيت أن قدر معاونة زوجك في رعاية ابنك وتربيته غير كافية وأن طريقته قاسية أو غير مناسبة، فأبديت اعتراضك وانتقدتيه ليغير من طريقته لتتناسب مع رؤيتك، ولما لم تجدي منه التغيير الذي أردت أدرت ابنك بطريقتك وقمت "بتدارك الموقف" حتى لا "يضيع الولد" وأديت ما كان يجب أن يؤديه زوجك بطريقتك أنت، فاستتبع ذلك ان ترك لك زوجك الجمل بما حمل لتصنعي مع ولدك ما تشاءين بطريقتك "الصائبة" التي تريحك، فتحملت وحدك تبعات رعايته، وصرت تتهمي زوجك بالسلبية وأنه لا شأن له بتربية الولد. إنك ـ بهذه الطريقة ـ قمت بإزاحة زوجك عن أداء دوره التربوي والتعليمي.. ثم لم تلبثي إلا قليلاً حتى استبدَّ بك التعب واستحوذ عليك الضيق ونال منك الجهد كل منال.. والأمر في حقيقته غير ذلك.. إنك أنت التي لم تقنعي بأداء زوجك التربوي مع الولد فأزحتيه جانبًا واحتللت أدواره فتركك تفعلين ما تريدين وظل يرقبك من بعيد منتظرًا خطأ ترتكبينه أو نتيجة سيئة لطريقة تربيتك لولدك التي لا يرتضيها ليلهب ظهرك باللوم والعتاب واتهامك بالفشل، فكان لسان حالك: "إن لم يفعل زوجي ما أريد بالطريقة التي أريد وفي التوقيت الذي أريد، فلا أريد منه شيئًا وسأفعل كل شيء بنفسي"، وسيؤول الأمر في النهاية إلى أن تحاولي فعل كل شيء وستعجزي عن ذلك بالقطع وسيستحوذ عليك الضيق والألم والتعب، وفوق كل ذلك ستلامي على تقصيرك وتتهمي بالفشل.

 

إن عدم رضاك ببذل زوجك حتى لو كان  قليلاً أو مبتسرًا أو معيبًا سيؤدي مع الوقت إلى حرمانك من هذا البذل.. قليله وكثيرة.. مبتسرة وكاملة.. معيبة وسليمة، فتفقدين بذلك عون زوجك ورأي زوجك وساعد زوجك في إدارة بيتك وسياسة ولدك. ولذلك أنصحك بأن ترضي من زوجك بالقليل المعيب وسيعطيك بعد ذلك الكثير الصحيح، فذلك خير لك من أن يتركك وحدك لتحمل مسئوليات تربية الولد.

 

إن اختيار الولد لحقل العمل وتركه استكمال دراسته له اسباب عدة:

 

فقد يكون قد يأس من حصوله على مجموع مناسب بالثانوية العامة لضآلة مجموعه في الصف الثاني.

 

أو أراد الشعور بالاستقلال وأنه أمسى رجلاً يستطيع العمل والتكسب أو أنه اتخذ من أحد أصدقائه الذين تركوا الدراسة وانشغلوا بأعمال تدر عليهم دخلاً قدوة أو قسى على وعاند مع وانتقم من والديه لسوء تعاملهم معه أثناء طفولته بقسوة أو تدليل فترك دراسته

أو

أو 

أو

 

أيًّا كان.. فقد ترك الولد دراسته لسبب فيجب معرفة هذا السبب وبذل المحاولات لإزالته وعلاجه. فالياس له علاج يختلف عن علاج من شعر بعدم الاستقلال ويختلف عن علاج من يتخذ آخرين قدوة وهم ليسوا أهلاً لذلك، ويختلف عمن يقسو على ويعند مع وينتقم من أهله، ويختلف... ويختلف... 

 

وهناك أمر آخر كثيرًا ما لا نلتفت إليه وهو أنه يجب أن يخضع البيت لنظام جيد حازم مبني على قواعد محددة حاسمة يخضع لها الجميع فيتيسر عليهم القيام بواجباتهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين.. وبما أن نظام استذكار الولد جزء من منظومة البيت بصفة عامة، فيجب أن يتم إعادة النظر في كل برامج البيت حتى ينتظم.

 

فبرنامج الطعام يجب أن يتم فيه تناول الوجبات في مواعيد محددة، وأن يجتمع كل أهل البيت أثناء تناول الوجبة.. ولكن شاع في هذا العصر ألا يكون هناك مواعيد ثابته لتناول الطعام كما أنه قلما يجتمع أفراد الأسرة على طعام واحد.

 

وبرنامج النوم  يجب أن يكون للنوم مواعيد محددة ثابته في الذهاب إلى الفراش وفي الاستيقاظ منه.. ولكن الشائع أن كل فرد بالأسرة ينام وقت أن يحلو له النوم ويستيقظ ساعة ما يريد.

 

وبرنامج أداء الصلوات.. وبرنامج الاستجمام والاسترخاء في أيام الإجازات.. وبرنامج صلة الرحم.. وبرنامج مشاهدة الفضائيات.. وبرنامج استعمال النت.. وبرنامج الذهاب إلى النادي.. والبرنامج الرياضي.. وبرنامج .. وبرنامج.. وبرنامج..  وبرنامج الاستذكار.. أن بيتًا بلا قواعد حاكمة وبرامج واضحة بيت "مهرجل" لن يأتي من ورائه خير كثير.  

 

والاستذكار جزء من المنظومة العامة للبيت فإذا ما صلحت هذه المنظومة صلح معها نظام استذكار الولد.. ولكن على ما يبدو أن بيتك ينقصه الكثير.. فكيف بك وقد تفرغت لولدك أن تنفذي برامج البيت وتنظمي البيت؟

 

أيتها الأم الرءوم.. اجلسي مع زوجك وضعي معه أسلوبًا مختلفًا للتعامل مع الولد.. فأنت وزوجك لا شك تريدان لولدكما الخير ولكنكما لم تسلكا سبيله.. اجلسي مع زوجك وقوما بتوزيع الأدوار بينكما مع الوضع في الاعتبار أن نصيب زوجك في تحمل المسئولية سيكون الأوفر والأكثر، وأطيعي زوجك في تنفيذ رؤيته في التربية حينما تختلفان، ولا تكلفي نفسك ولا يكلفك زوجك بأدوار تفوق إمكانياتك وقدراتك، فالمراهق قد لا يهتم بكلام أمه ولا توجيهات أمه ولكنه قد يستجيب أكثر لكلمات أبيه وتوجيهات أبيه.

 

أيتها الأم الرءوم.. اخضعي بيتك لنظام روتيني يومي محكم فسينتظم ولدك.. فالذكور يسهل إخضاعهم لنظام روتيني وهم يشعرون بالراحة بعدما يقاومون هذا النظام فترة من الوقت.. فمن طبيعة الأبناء محاولة التملص من القواعد والتفنن في خرقها فإذا ما وجدوها حازمة حاسمة ممكنة التنفيذ فسيخضعون لها وقد ملأهم الأمان والاطمئنان.

 

والبرنامج اليومي المقترح للاستذكار كالتالي: يستيقظ ولدك مبكرًا لتأدية صلاة الفجر (برنامج الصلاة) ويتناول طعام الإفطار (برنامج الطعام) ويجلس للاستذكار (برنامج الاستذكار) وبعد انقضاء وقت معين ساعتين أو ثلاث يأخذ استراحة يتناول فيها عصير أو ما شابه لمدة ربع أو ثلث الساعة، ثم يعاود الاستذكار حتى صلاة الظهر (برنامج الصلاة) ثم يستريح قليلا مزاولا لنشاط يحبه كمشاهدة برنامج فضائي ـ مزاولة لعبه .....(برنامج الاسترخاء) ثم تناول وجبة الغذاء (برنامج الطعام) ثم استراحة أو نوم خفيف (برنامج الراحة والاسترخاء) ثم الاستيقاظ وأداء الصلاة ثم الاستذكار حتى وقت العشاء مع أداء الصلاة في اوقاتها وتناول كوب من العصير أو ما شابه في وقت معين، ثم تناول وجبة العشاء، ثم الترويح قليلا قبل النوم.

 

هذا البرنامج المقترح قد يصلح مع البعض ولا يصلح مع البعض الآخر.. والتجربة هي الفيصل.. والمرونة هنا لازمة.. والصبر صفة لا غناء عنها.. والدعاء للولد يجب ألا ينقطع.

 

إن ابنك كبشري يمر بأوقات راحة بال وصفاء ذهن وأوقات أخري يكون فيها عكر المزاج ويعاني من الضيق.. ففي وقت صفاء الذهن علية استذكار المواد الصعبة التي لا يميل إليها، أما في وقت الضيق فعلية استذكار المواد التي يحبها ويميل إليها.. فأمسى يستذكر في كل أوقاته أثناء صفاء ذهنه كما في أوقات ضيقه سواء بسواء.

 

الاهتمام بمراعاة حالته النفسية.. فالمذاكرة ليست بالأمر الجذاب عند أغلب الطلاب.. والضغوط النفسية علينا وعلى ابنائنا كثيرة.. ولذا كان استخدام الترويح وتغيير الأوضاع مهم للغاية.. فإذا وجدتيه يشعر بالملل فاعرضي عليه أن يأخذ حمامًا دافئًا بالشتاء باردًا بالصيف.. وإذا وجدتية يحلم احلام يقظة فاتركيه قليلآ ثم أوقظيه وتحدثي معه فيما يفكر او اتركيه.. اصنعي له كوبا من الشاي وقدمية في الوقت المناسب.. دعيه ينام نومًا كافيًا ففي عمره يحتاج إلى حوالي 7-8 ساعات نوم يوميًا..  

 

كما أن معرفة نمط شخصية الولد يساعد كثيرًا في حسن التعامل معه، وفي تكليفة التكاليف الصحيحة التي تناسبة وتتسق مع قدراته وإمكانياتة، كما يجب معرفة بأي نوع من الذكاء يتمتع حتى يتم توجيهه الوجهة الصحيحة اثناء الاستذكار وعند تحديد المجالات التي من الممكن أن يبرع فيها ويتخذها بعد ذلك مهنة وحرفة.

 

كما أنه قد يكون خيار ابنك بترك التعليم وانشغاله بعمل يتكسب منه هو الخيار الأمثل لحالته.. فقد تكون إمكانياته التعليمية ضعيفة للغاية بينما إمكانياته الحرفية متقدمة بمراحل.. ولكن هذا الخيار يحتاج تغيير ثقافة المجتمع حتى يتم تقبله، فخير للمجتمع ـ وللشاب أيضًا أن يكون حرفيًا محترفًا من أن يكون جامعيًا متواضعًا.

 

سؤالك يا سيدتي أثار أشجاني.. فقد أخضع هذا الشعب الأبي كبارًا وصغارًا لمنظومة تعليمية فاشلة أطاحت بهدوء البال وراحة الضمير وسكينة النفس.. منظومة تعليمية كالمؤامرة الهثت الأنفس وراء أشباه سراب وخلفت وراءها شبابًا حملوا من الأمراض العصبية والآلام النفسية ما لم يتحمله أحد.. وما يحدث لك يا سيدتي وما يحدث من زوجك وابنك هو نتاج هذه المؤامرة الخسيسة التي لا مجال للخوض فيها الآن.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

وفقك الله تعالي وأدخلك في رحمته وغفرانه وعفوه.