"الإضرار بالوحدة الوطنية أو الإخلال بالنظام العام".. مصطلحان فضفاضان لا يدري لهما القانون تعريفا جامعا مانعا.. وهو ما جعلهما مرشحين لكل دكتاتور ليستعملهما في قصف رقاب المعارضين وتبرير قمعهم والزج بهم إلى السجون أو مصادرة أموالهم أو إسقاط حقوقهم السياسية والمدنية..


وفي هذا السياق أتحفنا انقلاب مصر بتشريع لم يسبقه إليه أي حكم دكتاتوري.. فجعل الوصفين السابقين أساسا لوضع الهيئات أو الأشخاص ضمن ما أسماه "قوائم الإرهاب"..
لكن ربما الخطوة الأهم والأكثر انحرافا بسلطة التشريع في تاريخ الدكتاتوريات - منذ هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا – أنه لم يعد ثمة حاجة للدعاوى الجنائية التي من شروطها العلنية؛ فوفقا للمادة 3 من التشريع الأسطوري، يُكتفى لإدراج أي شخص أو هيئة بتلك القوائم صدور قرار – سريّ بمعنى الكلمة - من دائرة "معينة" من دوائر الجنايات بمحكمة استئناف القاهرة بناء على عرض من النائب العام. إذ يصدر هذا القرار في غرفة المشورة دون دفاع المتهم بل ودون إعلانه أساسا، وبدون مستندات أو شهود، فحتى الشهود لم يعد لهم حاجة في المحاكمات فما بالنا بأوامر غرفة المشورة!!.

ستكون هي المرة الأولى في تاريخ أي قضاء بل وفي أي دولة، استبدادية أو ديموقراطية، تصدر فيها قرارات محاكم تُرتب أعباء، بل عقوبات جنائية على جهات أو أشخاص، دون إعلان أو حضور لممثل تلك الجهة أو هذا الشخص.. وكأنه سباق محموم لتسجيل رقم عالمي لأسوأ ما وصلت إليه الدكتاتوريات من امتهان للقانون ودور العدالة..!!
وتثبت الخبرة القريبة لأي مواطن عادي أن سيطرة الحكومات الدكتاتورية على دوائر بعينها في القضاء بالإضافة لتبعية النائب العام لها، تعني أن من لن ترضى عنهم سلطة القمع سيكونون، بالتأكيد، ضيوفا دائمين على تلك القوائم.

وبغض النظر عن الفانتازيا التي اتسم بها هذا التشريع الركيك في الحديث عن منظمات أجنبية لا يقصد بها سوى حركة حماس في غزة بالطبع، فإنه يبدو جليا أنه جمع شتاتا من ممارسات حكم مبارك، كاستعماله للعبارات المطاطية في المادة 86 من قانون العقوبات، وحكم النازي في ألمانيا، كتطبيق العقوبات قبل الإدانة بأي تهمة؛ وذلك فيما اتبعه – وفقا للمادة 7 – من إنزال الآثار العقابية بمجرد إدراج أي شخص أو هيئة بقائمة الإرهاب تشتمل مصادرة الأموال والمنع من السفر وإهدار الحقوق السياسية والمدنية لمدة لا تقل عن 3 سنوات قد تمتد لمدة أو مدد مماثلة – وفقا لحكم المادة 4 – دون أن يصدر أي حكم قضائي ضد الشخص أوالجهة المدرجة بالقائمة الذهبية..!!

لكن السؤال المطروح، لماذا يحتاج هذا النظام الاستبدادي لمثل هذا القانون "النازي" ، بينما هو يطبق ذلك بالفعل دون حاجة لأي تشريع؟!!

إن الأمر لا يخرج عن كونه استخداما جديدا من سلطة غير شرعية لأدوات التشريع والقضاء والنيابة العامة لقتل أي احتمال للمعارضة، بل قتل أي احتمال لتكوّن أي كيانات سياسية قادرة على التقييم والنقد وتقديم بدائل؛ ومن ثمّ فإن عصابة القمع تحاول أن تُكرس بالتشريع ما مارسته في الواقع دون تشريع؛ كما تحاول أن تُسكِّن ضمائر بعض القضاة الذي يشعرون بعدم الراحة لأن ما يجري تطبيقه حاليا من وصف بعض الجماعات بالإرهاب أو مصادرة الأموال والمنع من السفر، لا يوجد له أي غطاء تشريعي، فتوّفر لهم ذلك الغطاء الدافئ، الذي ربما تنتظره بعض النفوس لتأنس إليه، لكنه بالتأكيد لن يجدي مع الضمائر الحيّة التي تعرف معنى العدالة.. 

ومن المهم الإشارة إلى إن هذا التشريع الفاشي يتضمن إقرارا بفشل قانون التظاهر الذي سُجن بسببه عشرات النشطاء وعدم كفايته في عمليات القمع؛ فجرى تجاوزه إلى اعتبار عملية التظاهر في ذاتها عملا إرهابيا وفقا لتعريف للكيانات الإرهابية في الفقرة الأولى من المادة الأولى؛ وذلك بأن استعمل المشرع غير المشروع تعبيرات هلامية يمكن إسنادها لكل من يدعو لتظاهرة أو يشارك فيها، مثل: "عرقلة السلطة العامة..مصالح الحكومة.. دور العبادة.. معاهد العلم"..

إنها رسالة، ربما تكون الأخيرة، لكل من أمِل في أن يأتي هذا الانقلاب بأي أفق سياسي.. فرد بتشريعه الأخير بقتل أي حلم وإسقاط كل أمل، واضعا كل القوى السياسية والمنظمات المدنية والكيانات النقابية والروابط العمالية والاتحادات الطلابية والأشخاص من أصحاب الرأي، صحفيين كانوا أو باحثين أو أكاديميين، تحت مقصلة النائب العام ودوائر "معينة" من دوائر محكمة استئناف القاهرة التي لن تتردد عن إدراجهم بقوائم الإرهاب بجلساتها السرية، بما يستتبعه ذلك من آثار عقابية لا تحتاج حكما ولا جلسات محاكمة ولا غيره..

ربما لو نظرنا إلى هذا التشريع الفاشي من خلال نصف الكوب الآخر لاكتشفنا أنه دعوة صارخة لاصطفاف وطني واسع لطي صفحة واحدة من أسوأ الحكومات الاستبدادية في التاريخ الإنساني المعاصر..

الأمر يعتمد، بالتأكيد، على الناحية التي تنظر إليها.. لكنه لا يجب أن يعتمد على النافذة التي تنظر منها.. لأن كل الفرقاء أصبحوا ضيوفا محتملين لقوائم السلطة الإرهابية.. ولأن الانقلاب على ثورة يناير أعلن بتشريعه الأخير موت السياسة لمن كان يرغب في ممارستها في وجوده.