بقلم: أحمد السيد

مسلسل "قيامة أرطغرل" أو "النهوض – أرطغرل"، هو مسلسل تاريخي تركي، تناول حياة والد مؤسس الدولة العثمانية، عثمان الأول، وعرض جوانب من ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية قبيل إنشاء الدولة العثمانية وتأسيسها، وتفوق المسلسل في العديد من الجوانب الفنية والقيمية والجماهيرية، كما أنه لم يخل من بعض الملاحظات النقدية.


وحاز المسلسل جماهيرية كبيرة في تركيا والوطن العربي، ونال اهتمامًا كبيرًا في دول أوروبا، وحقق أرقامًا قياسية في معدلات المشاهدات على القنوات الفضائية وعبر مواقع الإنترنت، وجذب شرائح واسعة من المشاهدين.


وبرزت في المسلسل مجموعة من الميزات الفنية والقيمية، والتي تم تناولها بطريقة مغايرة عما هو شائع في قيم ورسائل الأعمال الدرامية عادةً، فقدم رسائل قيمية وأخلاقية أصيلة من نبع القيم الإسلامية في ثوب اجتماعي وسياسي، كما تعرض لحقبة من التاريخ الإسلامي، وتناول البطولات والصفحات المضيئة لقيادات تركت بصمتها على العالم الإسلامي، خلافًا للدراما التي تتعرض للتاريخ بمعالجات مشوهة متأثرة بضغط الواقع وكتابات المستشرقين.


وتم إنتاج المسلسل بتقنيات عالية واحترافية في التصوير، والموسيقى التصويرية، وكتابة السيناريو، وبتميز وإتقان في أداء التمثيل والتعبير بلغة الجسد، وبتنوع الانفعالات والمشاعر الإنسانية في أحداث المسلسل، فتعرضت لمشاهد الحماسة والصراع و"الأكشن"، ومشاهد الحزن والبكاء والألم، وإطلالات إيمانية ونبوية، بالإضافة للقصص الاجتماعية والعاطفية، وبعض الكوميديا والطرائف.


لكنَّ المسلسل - كما كل الأعمال الفنية - لم يخلُ من النواقص والسلبيات والانتقادات في بعض جوانبه، سواء على المستوى التاريخي، أو الديني، أو الفني، ومن ذلك عدم صحة الوقائع التاريخية، والمبالغات الزائدة في فروسية المحاربين الخارقة للعادة، وعلى مبالغات صوفية في شخصية ابن العربي، وإقحام ثقافة العلمانية في قصص الحب والزواج.


القصة الحقيقية لحقبة "أرطغرل" وقبيلته


لم تتوفر مصادر كافية لتوثيق هذه الفترة، والمصادر القليلة التي تحدثت عن هذه الفترة روت قصصًا مختلفة، وأنسابًا مختلفة للشخصيات، واعتمد المسلسل في سرد الأحداث والقصص الفرعية على خيال المؤلف، وعلى بعض المصادر التاريخية التركية.


فقيل عن نشأة "أرطغرل" إن السلاجقة لما تركوا وطنهم من فتنة جنكيز خان ملك التتار، ومالوا إلى جانب بلاد الروم، جاء معهم "أرطغرل"، وكان رجلاً شجاعًا، وبصحبته نحو ثلاثمائة وأربعين رجلاً من بني جنسه، فعمل في خدمة السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي، سلطان بلاد قرمان، فأعجب به لشجاعته، وقربه إليه، ثم زاد في عطائه ومِنَحه بعد أن فتحت على يديه كثير من البلاد. (المصدر: كتاب سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي).


وقيل: إن "أرطغرل" هذا كان راجعًا إلى بلاد العجم - أي فارس وما حولها - بعد موت أبيه غرقًا عند اجتيازه أحد الأنهار فارًّا من أمام التتار، فشاهد جيشين مشتبكين، فوقف على مرتفع من الأرض ليمتّع نظره بهذا المنظر المألوف لدى الرجل من القبائل الحربية، ولما آنس الضعف من أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه دبت فيه النخوة الحربية، ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة هذا الجيش المهزوم، وهاجم الجيش الآخر بقوة وشجاعة عظيمتين، حتى وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر، وأعمل فيهم السيف والرمح ضربًا ووخزًا، حتى هزمهم شر هزيمة.. وكان قائد هذا الجيش الذي قام بمساعدته هو الأمير علاء الدين كيقباد، وقد قام بمكافأته على هذا الفعل النبيل بإقطاعه عدة أقاليم ومدن، وصار بعد ذلك لا يعتمد في حروبه مع مجاوريه إلا عليه وعلى رجاله، وكان عقب كل انتصار يُقطعه أراضي جديدة، ويمنحه أموالاً جزيلة، ثم لقب قبيلته بمقدمة السلطان لوجودها دائمًا في مقدمة الجيوش.


وأمضى "أرطغرل" بعد ذلك باقي عمره في الجهاد والرباط؛ حتى سمي في المصادر التاريخية بـ"غازي الثغور" وبعد وفاته سنة سبع وتسعين وستمائة تقريبًا، كتب السلطان علاء الدين لابنه عثمان بالإمارة من بعده، وأرسل إليه خلعة وسيفًا كعادته عند تثبيت الأمراء. (المصدر: كتاب سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي).


المزايا الفنية لمسلسل قيامة "أرطغرل"


تعددت الجوانب المميزة في مسلسل قيامة "أرطغرل"، بدءًا من الفكرة والرؤية، وطريقة كتابة القصة والسيناريو والحبكات الفنية، مرورًا بالأداء الاحترافي للتمثيل وتميز لغة الجسد، وانتهاءً بالإخراج والموسيقى والمؤثرات السمعية والبصرية.


فقد طرح المسلسل رؤية إسلامية في تناول الأحداث، وحرص على ترسيخ معاني الإيجابية، والنخوة، وحفظ الأعراف، وعدم الذل، والاستسلام، ومغالبة الواقع الأليم مع الثقة واليقين في الله، كما برزت ثقافة الشورى في اتخاذ القرار، والصبر عند البلاء والمصائب، والاستعانة بالله، واللجوء إليه بالذكر والتسمية والدعاء.


وحرص العمل الدرامي على استخلاص الدروس والعبر من السيرة النبوية وإسقاطها على بعض المشاهد، وتمثل ذلك في دور ابن العربي، والذي يظهر بشكل متناثر على مدار الحلقات ليحكي في كل مرة قصة ودروسًا مستفادة في ثوب إيماني وأجواء روحانية.

واعتمد السيناريو على الذكاء الحواري، والتعبير بلغة الجسد مع قليل من الكلام، فظهرت أغلب الشخصيات بمستويات متقدمة من الذكاء والفهم والدهاء والمكر، كما حرص كذلك على عنصر المفاجأة، وتطور الأحداث بما لا يتوقعه المشاهدون، كما لم يتبع السيناريو منهج المثالية المطلقة في أدوار الشخصيات، فتارةً يتحول الشريف إلى خائن تحت الضغط والإغراء، وتارةً يتوب الخائن وينضم للشرفاء، وظهر أبطال المسلسل في مواقف صحيحة تارة، وفي مواقف خاطئة تارة أخرى.


ومن جوانب التميز في هذا العمل الدرامي شموله على أنماط الصراع والإثارة والمغامرة، وكذلك أنماط "التراجيديا" والبكاء والمشاهد المؤلمة، كما أعطى مساحات للعاطفة والحب والوفاء، وبعض الكوميديا الخفيفة.


والصراع ظهر في مشاهد الأمناء والخونة، والصراع مع التتار، والصراع مع الصليبين، واستمرت قصص الصراعات على طول الحلقات، وما إن تنتهي قصة صراع إلا وتبدأ قصة أخرى، وهو عنصر يثير فضول الجمهور للمتابعة، وترقب الحلقات الجديدة، وارتبط بعنصر الصراع تقنيات "الأكشن" والمعارك والفروسية والخيول، والنصر تارة والهزيمة تارة أخرى.


وظهرت ألوان المغامرة والإثارة في مشاهد عديدة، مثل مشاهد الهروب، وتنصيب الفخاخ، وقصص المغارة، وتنقيب الذهب، وتتبع الآثار، وأعمال الجواسيس، كما ظهرت الكوميديا في شخصية المحارب "بامسي"، سواء في نمط أدائه، أو على مستوى حواراته الكوميدية مع أقرانه.


ولعبت الموسيقى التركية ونمطها الدرامي المصاحب لأغلب المشاهد الحوارية والصامتة دورًا مؤثرًا في وجدان المشاهد، وهو نمط متميز في الأعمال التركية بموسيقاها ذات الطابع الخاص.


ملاحظات نقدية


تعرض بعض النقاد للحديث عن عدم صحة بعض الوقائع التاريخية، وقد أشرنا إلى أن الوقائع التاريخية لفترة المسلسل ليست لها رواية واحدة، والطبيعي أن يقوم المؤلف باعتماد إحدى الروايات، ثم نسج القصص الفرعية من خياله، وهذا ليس أمرًا سلبيًّا ما لم يغير وقائع بارزة ومسلّمة، ومسلسل "أرطغرل" – وفقًا لبعض المؤرخين - به أخطاء تاريخية.

أما أبرز الملاحظات السلبية فتبدأ من عنصر المبالغة الزائدة، فقد ظهرت شخصية البطل "أرطغرل" ومحاربيه الثلاثة، بصورة خارقة، يواجهون العشرات من التتار أو الصليبين، ويقتلونهم واحدًا تلو الآخر ويخرجون منتصرين دون أية إصابة.


وشملت المبالغات شخصية ابن العربي، وقدرته على كشف الغيب، ففي إحدى مشاهد هروب "أرطغرل" من جنود التتار، يلجأ لمغارة، ويصل التتار لمدخل المغارة، وبينما ابن العربي في مكان آخر يأتيه إيحاء بوضع "أرطغرل" المتأزم، فيقرأ آيات من القرآن ثم ينفخ بفمه، فإذا رياح تخرج من المغارة في وجه جنود التتار، فيقررون عدم دخول المغارة، وفي مشهد آخر يقع "أرطغرل" أسيرًا  بيد الصليبيين، فيأتي الإيحاء لابن العربي أثناء جلوسه مع أحد فرسان الصليبين الذين أسلموا على يديه، فيطلب ابن العربي من هذا الفارس أن يذهب وينقذ "أرطغرل"، فيذهب الفارس وينقذ "أرطغرل".


وظهر عنصر المبالغة كذلك في قصص الخيانة والقتل، وتكرار ظاهرة رفع السلاح بين المتحاورين عند الغضب، وهي مشاهد تعطي انطباعًا وجدانيًا سلبيًا.


ورغم أن المسلسل اتسم بالانضباط الأخلاقي في مجملة، وتجنب مشاهد العري والإسفاف، وتعرض لقصص الحب والإعجاب في سياق طبيعي وهو الارتباط بالزواج، فإن هذه المشاهد لم تخلُ من صور غير منضبطة بالثقافة الإسلامية والتوجيهات النبوية، فمشاهد الخلوة بين الحبيبين، وملامسة الأيادي، والأحضان قبل الزواج، هي ثقافة دخيلة ولم تكن من ثقافة المجتمعات الإسلامية بشكل عام، فالمجتمعات الإسلامية فيها المنضبط وغير المنضبط، لكن سلوك الانضباط كان هو السلوك الشائع والعام في المدن وفي القبائل، أما الثقافة غير الإسلامية فتعتمد العلاقة الغرامية قبل الخطوبة والزواج باعتبارها أمرًا طبيعيًا وضرورة بشرية.


إن مسلسل قيامة "أرطغرل" أو النهوض "أرطغرل" قدم رؤية فنية إسلامية وتاريخية في مجملها، لكنها مختلطة ببعض الرؤى العلمانية، ومتأثرة ببعض الرؤى المذهبية، وهذا نتاج الثقافة المختلطة للأتراك منتجي المسلسل.