بقلم: أحمد مصطفى

تمر اليوم ذكرى استشهاد أحد المربين العظام في العالم المعاصر، رجل بذل حياته لله مربيا وعاملا لدينه ودعوته، إنه شيخ الدعاة والمربين محمد مهدي عاكف.
 
ففي يوم 22 سبتمبر من عام 2017م استشهد الاستاذ مهدي عاكف وقد تجاوز التسعين عاما في السجون، بتهم باطلة، ورغم هذا العمر الذي لم يشفع له عند جلاديه، ظل رحمه الله ثابتا راضيا، لم يطلب من خصمه يوما العفو أو الصفح حتى لظروفه مرضه، ومات شامخا ملهبا قلوب الشباب بالتضحية في سبيل دينهم ودعوتهم.
 
امتاز رحمه الله بأنه ظل عاملا مجاهدا متفاعلا جنديا وقائدا ونموذجا للثبات أمام المحن التي لا تحصى ولا تعد في مسيرة حياته؛ حيث خلف مواقف من عظمة شخصيته، ستظل الأجيال تتناقلها وتسجلها في صفحات التاريخ بمداد من ذهب؛ لأنه نحسبه ولا نزكي على الله أحدا كان واحدا من الذين قضوا نحبهم وحب دعوته يتملك كيانه.
 
في جو يتسم بصفاء الطبيعة وروعة الحياة وبساطة المعيشة وصدق المشاعر بين أبناء القرية نشأ محمد مهدي عاكف وسط أسرة متدينة حرص رب الأسرة على تربية أبنائه تربية إسلامية، فقد ولد في يوم 12 يوليو من عام 1928م بقرية كفر عوض السنيطة مركز أجا محافظة الدقهلية.
 
* على أرض النار
 
عندما خرج النحاس باشا بتصريحاته النارية التي ألهبت الوجدان وأشعلت جذوة النار في قلوب طلاب الجامعات بعدما قرر إلغاء معاهدة 1936م من طرف واحد، فانطلق الطلاب يكبدون العدو الإنجليزي الخسائر تلو الخسائر، كان الشاب محمد مهدي عاكف أحد هؤلاء الذين قادوا معسكر التدريب في جامعة إبراهيم باشا، فخرج جيلا زلزل أركان المحتل عام 1951م، يقول: "في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي: إن مدير الجامعة الدكتور محمد كامل حسين يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك نحن خارجون عن القانون ونعمل في حمى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسئولية؟ وكان الدكتور نظيف وكيل الجامعة موجودًا بنفس المكتب فكرر عليَّ نفس الطلب السابق بأن يقوم بافتتاح المعسكر بنفسه ورددت عليه بنفس ردي على السابقين: فلست أنسى هذه الكلمة أبدًا، قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم].
 
* ثبات حتى الممات
 
قامت ثورة 23 يوليو وشارك فيها الإخوان، غير أن العسكر انقلبوا على الإخوان وحلوا الجماعة في يناير 1954م، واعتقلوا المرشد العام حسن الهضيبي وعددا من الإخوان كان عاكف واحدا منهم غير أنه استطاع الهروب وظل مطاردا حتى اعتقل مرة ثانية في أغسطس من عام 1954م.
 
ولقد ضرب مهدي عاكف النموذج الحي والعملي للثبات على المواقف، فبعدما ساءت العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر حتى تم اعتقال الأستاذ عاكف وتم تعذيبه بصورة وحشية جعلته يذكر أن الذي كان يطعمه خلسة أحد اليهود المحبوسين؛ لما رأى من شدة التعذيب عليه، ومع ذلك ورغم اعتقاله قبل حادث المنشية عام 1954م بشهور فإن عبد الناصر زج به في المحاكمات والتي حكمت عليه بالإعدام شنقا؛ حيث يصف موقف الإعدام بقوله: ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن بها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي حتى المناديل، ولم يكن مسموحًا لنا بشيء، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رحمة الله عليهم، وكنت أنا السابع، وجاءني مدير البوليس الحربي، وكان اسمه أحمد أنور، فحدثته بشدة، وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير، بالإضافة إلى أنني سأُعدم فلماذا أخاف؟! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك؟!
 
* الجرأة في الحق
 
وهب الله عاكف العديد من الصفات القيادية منذ أن كان طالبا، ومنها الجرأة في الحق واللين لكل من يعمل لهذا الدين والانفتاح، وغيرها، فبالرغم من كونه كان قد شارف على التسعين إلا أن الجميع كان يرى فيه روح الشباب، وحكمة القائد، وصبر الجندي، والأخوة الصادقة.
 
يقول: في يوم 25 يوليو 1974 جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلنا على مدير الليمان واسمه اللواء علي موسى، ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات، فقمت دون أن أشعر وقلت لهم: اسمعوا: أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حرًا ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلاً والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
 
وموقف آخر أثناء عودة المستشار حسن الهضيبي، المرشد العام، من رحلته بالخارج عام 1954م حينما حاول البوليس الحربي منع خروج بقية الإخوة من المطار؛ ما دفع مهدي عاكف أن يصف المشهد بقوله: وكنت قد أعددت سيارة غير سيارة المرشد، واستقبلناه وركب السيارة بجوار الدكتور خميس، وركبت أنا في الأمام، لكنني فوجئت بمن يقول إن سيارة المرشد العام هي التي ستخرج فقط من المطار، فوقفت وقلت: سيارة المرشد العام ستكون آخر سيارة تخرج من المطار، فجاء مدير أمن القاهرة (أحمد صالح) وأخبرته بأن أمامه دقيقتين، "وإن لم يخرج الجميع أنا سأفتح البوابة بالقوة"، ففتحوا البوابة، وقلت لجموع الإخوان: "لا تتوقفوا لأي أحد" حتى وصلنا المركز العام؛ حيث وجدنا الأعداد الغفيرة في انتظارنا، وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيسي في الحكم علي بالإعدام، وليس ما قمت به نحو عبدالمنعم عبدالرءوف.
 
* بين الساقة والحراسة
 
ما إن انخرط عاكف- وهو شاب في المدرسة الثانوية- في ركب الدعاة رغم حياته الميسورة، إلا وقد تملكه حب الانطلاق والإبداع للوصول لقلوب الناس بدعوته التي ما إن عرفها حتى كان جنديا في الميدان يذود عنها ويعمل تحت لواء القادة.
 
لقد ضرب عاكف المثل العالي في الجندية حينما اختار عن طيب خاطر أن تكون فترة ولايته كمرشد فترة واحدة، ويترك المجال لجيل آخر يحمل ويقود مسيرة هذه الدعوة.
 
لم يركن الأستاذ عاكف لكبر سنه أو للأمراض التي حلت به، وقال كلمته التي دونها التاريخ حينما تم اختيار مرشد جديد، وأثناء تسليمه راية القيادة للمرشد الجديد قال له: "كما جاء على لسانه: كنت أول من نادى الدكتور محمد بديع بفضيلة المرشد العام، وأثناء خروجي من المكتب ناديته، وقلت: "يا فضيلة المرشد.. أنا رهن إشارتك في أي وقت تحتاجني الدعوة فيه".
 
رحل المرشد الشهيد الأستاذ محمد مهدي عاكف ولم يشيعه أحد، ولم يقف على قبره أحد، مات وقد دفن في جوف الليل، بعدما رسم بمواقفه طريقا من نور يسير عليه كل من أراد أن يعمل لدين الله متجردا.