نستكمل رؤية الإمام الشهيد حسن البنا- يرحمه الله- في الإصلاح السياسي، وكيفية استخدامه لأسلوب المفاوضات والرسائل لمختلف المسئولين ولعموم الشعب، كوسيلةٍ للنضال ومحاربة الاحتلال، وقد كتب الإمام مقالاً بعنوان: حول المفاوضات أيضًا (جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (3)، السنة الأولى، 5 جمادى الثانية سنة 1365ﻫ/ 7 مايو 1946م، ص2) جاء فيه:

قرأت في إحدى المجلات الأسبوعية أن المفاوضات المصرية الإنجليزية تحرَّجت في وقت من الأوقات إلى درجةٍ تهدِّدها بالانقطاع، وأن دولة صدقي باشا فكَّر حينئذٍ في أن يطير إلى إنجلترا ليقابل المستر بيفن، وأن دولته أمرَ بإعداد الطائرة فعلاً، وتجهَّز للرحلة تجهُّزًا تمامًا، لولا أن السفارة البريطانية اتصلت به بعد ذلك ووصلت ما كاد ينقطع.

 

قرأت هذا الكلام فإذا بي أسائل نفسي في شيءٍ من المرارة والألم: ولماذا يتجه صدقي باشا للمستر بيفن ولا يتجه إلى الأمة المصرية؟!

 

قابلت دولة النقراشي باشا في أثناء وزارته الماضية، وتحدثت إليه ساعةً كاملةً، ولم يعُد الآن من الأسرارِ ما دارَ بيننا من حديث، وأذكر أنني قلت لدولته حينذاك: إن شعور الأمة قوي ووعيها ناضج كامل، وإن الفرصة سانحةٌ والجميع ينتظرون قولاً فصْلاً وعملاً حازمًا، فقال دولته: أليس من حقي أن أتبصَّر في الأمور، وأتخيَّر أحسن الأساليب، وأجسَّ النبض حتى لا نفاجَأ بما لم نكن ننتظر؟! فقلت: لك ذلك طبعًا يا باشا، وإنني أشعر بأن من واجبي الوطني أن أقول لك سِرْ على بركة الله، فإن عبرت الطريق أمامك ويسر الأمر بين يديك فالحمد لله رب العالمين، وإن كانت الأخرى فقد أدَّيت واجبك، وعليك أن تكاشِف الأمة، وأن تدعوها للجهاد ولن تجدَ منها إلا سامعًا مطيعًا، حتى مَن تراهم في صفِّ المعارضة الآن سيكونون معك أول المجاهدين حينذاك، ولو فرضنا أنهم آثروا التخلُّف لوقفوا وحدهم، ولانفضَّت الأمةُ عنهم، وكل الذي أرجوه أن تُسرع بالعمل، فالوقت من ذهب، والفرصة لا تعوَّض.

 

فقال: إذا لم أوفَّق فسأستقيل، وأنا لا أرغب في حكمٍ ولا منصبٍ، ولا أعتبر الحكم غنيمةً، وإنما هو ضريبةٌ ثقيلةُ الأعباء، فقلت: ولماذا تستقيل؟! إن من الخير لك وللأمة معك أن تقودَها إلى الجهاد وأنت حاكم، والحكمُ سلاحٌ فلماذا تدعه يسقط من يدك؟! وانتهى حديثنا على هذا النحو، ومضت الأيام بعضها إثر بعض على النحو الذي يعرفه القراء جميعًا.

 

يظهر أن زعماءنا وحكامنا لا يؤمنون الإيمان الكامل بالحقِّ الذي ينادون به وهو حقٌّ طبيعيٌّ واضحٌ، ولا بالشعب الذي يعيشون فيه وهو شعبٌ باسلٌ مكافحٌ، ولا بالفرصة التي أتاحها الله لهم وهي فرصةٌ نادرةٌ قلَّما يجود بها الزمن، ولا يريدون أن يجرِّبوا ولو مرةً واحدةً ثمرةَ الإقدام وفضل الاتجاه إلى الأمة، وأثر التوكل على الله العلي الكبير.

 

ويظهر أنهم قد وطَّنوا أنفسهم على أننا لا يمكن أن نَصِلَ إلى حقِّنا إلا بهذه الملاينة وهذا الرجاء، فما وصلنا إليه فمِن فضْلِ الله، وما لم نَصِلْ إليه اليوم فسنصل إليه غدًا، وعلينا أن نرضَى ولو كنا كارهين، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا شكَّ أن في ذلك أعظمَ الخطر على قضيتنا الوطنية.

 

إننا نريد أن نقول لدولة صدقي باشا الآن كما قلنا له ذلك من قبل: إن الفرصة سانحة، والأمة مهيَّأة، والحقوق ثابتة، ولست بذي حاجة إلى مال فتطمع فيه، أو جاه فتحرص عليه، أو حزب فتتقيَّد به فلا تتردَّد أبدًا في أن تأخذ الأمر في هذه المفاوضة بالحزم الكامل.

 

فإن حقَّ الوطن واضحٌ ثابتٌ، ولا تتردَّد في الإيمان بهذا الشعب، فإن له من خصائصه النفسية وحيويته الكامنة ووعيه الناضج واستعداده الكامن ما ستُظهره الأيام، وتُجلِيه الحوادث، وإن شأنه اليوم ليس كشأنه بالأمس القريب، فلقد قضينا سبعة عشر عامًا نلقِّن شبابه دروسَ التضحية والصبر وآيات الجهاد والبذل، ونروِّضهم على ذلك بكتاب الله وسيرة أسلافهم وتاريخ آبائهم وأجدادهم، حتى صار الموت في سبيل الحق أحبَّ إليهم من الحياة ولكنهم لُقِّنوا مع ذلك قداسة القانون وحرمة النظام، ولن يكون القانون قانونًا حتى يصدر عن إرادة المؤمنين به، وينظِّم حاجة المتفقين عليه، لا أن يكون سيفًا مسلولاً على أعناقهم، وحرجًا دائمًا لصدورهم، وحاجزًا مانعًا دون الوصول إلى حقِّهم.