قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

لا شك أن ما نزل من بلاء بأربعين رجلاً من الشرفاء الأطهار كان بلاءً عظيمًا، فليس من الهيِّن أبدًا تشويه سمعة الرجال وإلصاق التهم الزائفة بهم؛ من إرهاب إلى غسيل أموال إلى تعطيل الدستور.. إلخ، وهم الأطهار الذين يعتصرون ألمًا لما يعانيه شعبهم، بل كثيرٌ من شعوب العالم، من فقر وجوع وقهر وظلم وسلب للحريات ونهب للثروات، واستبداد سياسي وجهل ومرض و.. إلخ.

 

ليس سهلاً حرمان الإنسان من حريته التي هي أعزّ ما يملك، وليس سهلاً حرمان الإنسان من أولاده وزوجته وأمواله وإخوانه، وليس سهلاً أن يرى الإنسان نظامَ الحكم ينتهك القانون، ليس مرةً بل مرات ومرات في قضية واحدة، كل هذا وغيره لم يكن سهلاً على النفس، فيمر دون أن يترك أثرًا.

 

ولكن هل خلت هذه المحنة من منحة؟ لا والله، بل هي منح كثيرة، فيصدق في هذا المقام قول القائل "قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت"، تُرى ما هي هذه المنح التي أنعم الله بها في هذه المنحة؟!

 

لست بقادر على حصر هذه المنح كلها ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم: من الآية 34)، ولكن لعلِّي أسلط الضوء على بعضها إن شاء الله في هذه العجالة السريعة..

 

أول هذه المنح متعلق بجماعة الإخوان المسلمين، التي ما كان كل هذا الكيد والزيف إلا للنَّيل منها، وصرف الناس عنها في الداخل والخارج، فقد أتاحت قضيتُنا هذه وما صاحبها من فعاليات وتغطيات إعلامية محلية وعالمية، أتاح كل هذا لملايين من البشر في مصر وخارجها أن يعرفوا عن الجماعة ورجالها وما تدعو إليه، وعن الظلم الذي تتعرَّض له هذه الجماعة، فخلق ذلك تعاطفًا معها من هؤلاء الملايين.

 

من بين هؤلاء المهتمون بحقوق الإنسان، وأكثرهم من غير المسلمين؛ فقد تأكد لهم بما لا يدع مجالاً للشك أنها جماعةٌ سلميةٌ لا تعرف الإرهاب، ولا تدعو إلى العنف، وأنها تشارك المجتمعات في كثير من دول العالم حياتهم؛ بغية الإصلاح بالوسائل الشرعية السلمية، وأنها تؤمن بحق الجميع، أيًّا كانت عقائدهم أن يعيشوا أحرارًا آمنين لا يضارُّون بسبب عقائدهم ولا انتماءاتهم الفكرية أبدًا.

 

نعم حدث ذلك؛ فقامت المظاهرات في كثير من دول العالم، تندِّد بالمحاكم العسكرية، وتنادي بالحرية للشرفاء، وقامت منظمات حقوق الإنسان تطالب بالإفراج الفوري عن الشاطر وإخوانه، بل وحضر إلى مصر ناشطون في مجال حقوق الإنسان من كل حدب وصوب؛ لمؤازرة هذه المجموعة التي تعرَّضت للظلم والزيف وتطالب بالحرية لهم ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ (98)﴾ (الصافات).

 

ومنحة أخرى جنيناها نحن المحالين إلى المحاكم العسكرية منحةً، في أبنائنا الذين خاضوا تجربةً لم تكن في حسباننا ولا حسبانهم، فكان لذلك مردودٌ فوق الخيال؛ فمنهم من شعر بأنه مكان أبيه في البيت بعد اعتقاله، وأصبح مسئولاً عن أمه وإخوته، فنضجت شخصيتُه وعلَت همَّتُه، ومنهم من حرص على الاتصال بوسائل الإعلام؛ لتوصيل قضيته وشرح أبعادها، وتوضيح أن والده رجل شريف طاهر اليد والقلب، وأنه يتعرض للظلم والقهر.

 

فزادت بذلك خبراتُه وإمكانياتُه الشخصية، ومنهم من خلف والده في إدارة أعماله أو التعامل مع عملاء شركاته، فتفتَّح على آفاق أرحب من ذي قبل، حتى الأطفال الصغار وقفوا أمام الميكرفونات وعدسات وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووقفوا في المؤتمرات.. وقفوا في كل هذه المواقف يشرحون قضيتهم ومواقف آبائهم، فسبقوا بذلك زمانهم، وأصبحوا كبارًا في أجساد الصغار.

 

وأعظم الفوائد أنهم فهموا مبكِّرًا قضية الصراع بين الحق والباطل والعدل والظلم، وعرفوا من يسرق أحلامهم ويسرق أوطانهم، فازدادوا ثقةً بمبادئهم وارتباطًا دينهم وربهم جل وعلا.

 

ولا يخلو الأمر من فوائد أخرى على مستوى الأفراد المحبوسين أنفسهم ربما تعبِّر عنها الحلقة القادمة من هذه التأملات إن شاء الله، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

ولكن رغم كل هذه النعم التي أشرت إليها والتي سوف أشير إليها؛ يبقى السجن هو السجن، ويبقى فقدان الحرية غصَّةً في الحلق، ويظل الاستبداد والقهر والظلم ممقوتًا مرفوضًا، وما زال الأمل أن يكشف الله الغمَّة عن البلاد والعباد.