كان الحضور الطاغي لمأساة سرقة أرض فلسطين وتشريد أهلها مؤثرًا في عدد فائق من الأدبيات التي تعاطت مع هذه المأساة وطغا على عنوانات عددٍ كبيرٍ منها فيما يُشبه استباق النتائج لوضوحها ألفاظ دالة على حجم التزوير والإفك الذي مارسه القلم الصهيوني المؤرخ لمزاعمهم، وهو ما بدا واضحًا في استعمال ألفاظ من مثل: "الأساطير" على ما صرَّح جارودي في عنوان كتابه (الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل)، ومن مثل: "اختلاق" على ما ظهر من عنوان كتاب كيث وايتلام (اختلاق إسرائيل القديمة).

 

وهو الأمر الذي راق للدكتور عبد التواب مصطفى أن يفعله في عنونة كتابه (تفنيد أسطورة الهيكل الثالث: قراءة في الخطاب التوراتي حول القدس) الذي صدر مؤخرًا سنة 2009م، عن مركز يافا للدراسات والأبحاث بالقاهرة.

 

وبعض من أهمية الكتاب عائد إلى موقع مؤلفه الدكتور عبد التواب مصطفى إعلاميًّا بما هو كبير مذيعي البرامج الدينية بالقناة الأولى، القناة الرسمية الرئيسية بالتليفزيون المصري، وبما هو عضو في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر.

 

وبعض من أهمية الكتاب نابع أيضًا من صدوره متزامنًا مع أكبر عملية إعادة ترسيم حدود القدس من قِبل الإدارة الصهيونية ومتزامنًا مع أكبر عملية إعداد لهدم المسجد الأقصى على طريق التهيئة لما يُسمَّى بإعادة بناء الهيكل.

 

ويتضمن الكتاب معالجة المطالب التالية:

1- الأدلة التوراتية في تأكيد سبق الوجود العربي في فلسطين على أي وجود آخر.

2- الأدلة التوراتية على أن الوعد بأرض ما بين النيل والفرات ليس لبني إسرائيل.

3- الأدلة التوراتية على أن صخرة بيت المقدس لم تكن مذبحًا لجد اليهود إسحاق.

4- الأدلة التوراتية على انتقام الله من اليهود بسبب تدنيسهم بيت عبادته.

5- الأدلة التوراتية على عدم أهلية اليهود لبناء الهيكل حاليًّا وعدم أهليتهم لسدانته.

6- الأدلة التوراتية على أن محاولات اليهود الحالية لبناء الهيكل في القدس تعد من كبائر المعاصي الدينية.

7- الأدلة التوراتية على أن مفهوم العودة إلى أرض الميعاد قد تحقق قديمًا، وأن ما يقوم به اليهود الصهاينة حاليًّا بأرض فلسطين هو محض احتلال.

8- الهيكل لم يعد بيت عبادة ولكنه أصبح دولة "إسرائيل".

 

أهمية هذا الطرح

أن واحدًا من أشكال أهمية معالجة المزاعم الصهيونية المتعلقة نابع من ضرب الأسطورة الصهيونية وإسقاطها من الداخل اعتمادًا وتأسيسًا على نوع قراءة فاحصة للخطاب التوراتي المتمركز حول المدينة المباركة القدس الشريف، وهو ما يعطي ملمحًا مهمًّا يجعله قادرًا على اللعب في مؤخرة الرأس الغربي، في خطوةٍ قد تكون مؤثرة في تغيير القناعات لدى طائفةٍ من المثقفين الغربيين.

 

هذا فضلاً عما يمثله مثل ذلك الطرح من الانطلاق من نقطة منهجية تعتمد في نقض الأسطورة على مادة تأسيسها أو ما صوره المؤرخ  الصهيوني للجماهير اليهودية بيَّن أنه الأساس المتين الذي قامت عليه عملية بناء المزاعم التي تم اختلاقها.

 

وهذه النقطة المنهجية هي التي اعتمدتها بعض الأدبيات التي اعتنت بنقض المزاعم التاريخية التي سوقها الصهاينة؛ مما نجد دليلاً عليه في كلام كيث وايتلام، عندما قرر نقلاً عن واحدٍ من أكابر نقاد الكتاب المقدس، وهو المر برجر الذي يقول: إن فحص الكتاب المقدس قائد إلى أنه لا الأرض المقدسة مقدسة- ولا الشعب المختار- مختار.

 

وهي طرق مأنوسة طالما سار فيها كثيرٌ من الدارسين تقديرًا لقيمتها وآثارها المنتجة في هدم المزاعم الصهيونية.

 

لماذا ننقض الأساطير؟

ومن الجدير بالذكر أن يكون واضحًا أن مسألة التعرض للمزاعم والأساطير الصهيونية حول القدس لا يصح أن تتصور على أنها دراسة تاريخية علمية تسعى نحو إعادة كتابة التاريخ بعد ما زوره وشوهه واختلقه الصهاينة، وإن كان هذا هدفًا جليلاً وجديرًا بالعناية والتقدير، ولكننا نعرض بالنقض والهدم للمزاعم بما هو جهاد في مواجهة عدو فاجر مجرم، وهو الوجه المهم الظاهر من مفتتح هذا الكتاب.. يقول الدكتور عبد التواب مصطفى (ص5) في سياق تعريفه للتوراة: التوراة الكتاب المقدس الذي يستعبد به خصمنا وعدونا اللدود.

 

وهو مدخل لازم الإبراز والظهور في هذا السياق المعاصر.

 

العرب أسبق الشعوب التي أعمرت أرض فلسطين

إن التاريخ الحقيقي يقرر أن داود عليه السلام كان وافدًا على أرض معمورة بالشعب عاش بينهم واشترى منهم بيدر غلال (مخزن حبوب).

 

ويقرر الدكتور عبد التواب مصطفى في سياق تثمين قيمة هذا المدخل المبين من أصالة الوجود العربي في فلسطين وأسبقيته يقول (ص9): "فحوى ذلك الكذب والتضليل الصهيوني هو القول بأن اليهود هم أول من عمَّر أرض فلسطين، وأنه لم يكن لتلك الأرض أهل وشعب يسكنها قبل اليهود، ومن النصوص الواردة المقتبسة من التوراة مما يدعم هذا التوجه ما يلي:
يقول إبراهيم عليه السلام في خطابه لأهل جدون (الخليل): أنا غريبٌ نزيلٌ عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن فيه ميتي. (تكوين23/4).

 

وتقول التوراة: "وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أيامًا كثيرة" (تكوين 21-22/24).

وتقول التوراة إن إسحاق بن إبراهيم لم يولد في فلسطين وإنما ولد وأقام في غيرها.

وتقول التوراة إن يعقوب المسمى بإسرائيل ولد وعاش وتزوج خارج فلسطين وأنجب جميع أبنائه خارجها، ففي سفر التكوين 28/2001 "فدعا إسحاق يعقوب وباركه وأوصاه وقال له لا تأخذ زوجة من بنات كنعان قم فاذهب إلى فدان أرام".

 

من التاريخ الذي يطمسه الصهاينة يقرر أن اليهود القدامى عبر خمسة آلاف سنة لم يكن لهم حكم فلسطين إلا على فترات متباعدة وقليلة جدًّا.

 

التوراة تكذب مزاعم أرض الميعاد!

ومثلما فعل الدكتور عبد التواب مصطفى في التقاط سطور من التوراة تُكذِّب المزاعم المتعلقة بالوجود اليهودي في أرض فلسطين كرّ على عددٍ من نصوصها التي تقرر أن لإبراهيم أبناء كثيرين منهم عدد كبير منحدر من أم عربية فلسطينية.

 

فلماذا يختص الوعد المزعوم بيعقوب دون غيره؟!!، وعلى فرض الإقرار بالوعد فإنه موجه لكل أبناء إبراهيم ونسله.

 

ومثل ذلك ظاهرة في أن التوراة تكذب وقعة الفداء، وتُكذب العلاقة المزعومة بين الذبح (رمز الفداء) وصخرة بيت المقدس.

 

ويلتقط الدكتور المؤلف أن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم، وظلَّ هو الابن الوحيد مدة عقد ونصف العقد.

 

أضف إلى ذلك أن التوراة تقرر أن الله انتقم من اليهود بسبب تدنيسهم بيت عبادتهم له.

 

وفي استثمار جيد للتحليل اللساني اللغوي المتعلق باللفظة "هيكل" يقرر المؤلف في دراسة تأصيلها أنها كلمة كنعانية فلسطينية قديمة، وهو ما يتطابق مع القول بأصالة العربية التي انحدرت منها وتفرعت عنها اللغات السامية عمومًا ما هو معروف في دراسات علم اللغة المقارن ومتداول بين دارسيه من أن اللغة العربية الأصل الأقدم للسامية الأم اعتمادًا على أدلة لغوية حضارية وتاريخية وأنثروبولوجية (إناسية).

 

وهو ما يتفرع عنه الإقرار بعدم أهلية اليهود لبناء هيكل في الدعاوى المعاصرة، وعدم أهليتهم لخدمته وسدانته بعدما أفرطوا في صناعة المعصية والخداع والمكر والخروج عن شريعة السماء.

 

والمدهش أن تقرر التوراة أن المحاولات المعاصرة والمستقبلية لبناء هيكلهم المزعوم اعتمادًا على أن نزول المسيح مرتبط بخراب الدنيا أو مرتبط بزوال دولة إسرائيل أصلاً؛ لأن ذلك خطيئة دينية في حق التقاليد التوراتية!.

 

إن بناء دولة صهيونية والدعوة إلى إقامة الهيكل يضرب في عمق مخالفة التوراة وإسقاط تعاليمها.

 

باسم هذا الوعي يجب أن يتحرك المسلم المعاصر في مواجهة عدو فاجر متسلحًا ابتداءً بالمعرفة النقدية لأسس بناء المزاعم الصهيونية.

---------------------

* كلية الآداب/ جامعة المنوفية- مصر