قابلتها شاحبة الوجه، نحيلة الجسم، آثار الدموع تكاد تصنع خطوطًا في وجهها الذي طالما رأيته رقيقًا مبتسمًا، هالني ما رأيته منها وقد كنت أعرفها معرفةً جيدةً، شابةً مليئةً بالحيوية والحياة، منطلقةً بالمرح والأمل والضحكات البريئة والقلب المفتوح للحب والود، كنتُ معها يوم عرسها، علامات الفرحة على وجهها كانت ظاهرةً للجميع، وحين زرتها في بيت زوجها، كانت كأسعد ما تكون العروس.

 

قلت لها كيف حالك معه؟ قالت في خير حال، أوصيتها به وبأهله خيرًا، فقالت إنه في عيني وفي قلبي، وأهله هم أهلي، لقد أحببته وهو أول رجلٍ عرفته، لم أحب قبله، بل أغلقتُ قلبي له دون أن أعرفه، وحملت له كل حبِّ الدنيا ودفئها ونويتُ بيني وبين ربي أن يكون هو حبيبي الأول والأخير، وأن اتقي الله فيه وأن أفني نفسي في إسعاده، وأن يكون أبناؤنا هم قرة أعيننا وأن أربيهم بيني وبينه بما يرضي ربنا، وقبل أن يأتوا إلى الدنيا، وقبل أن أعرف أباهم، احتسبتهم لله ووهبتهم لله، قررت أن تكون أمه هي أمي وأن تكون عائلته هي ملاذي حبًّا فيه وإرضاءً له.

 

سعدتُ بكلماتها، واطمأننتُ عليها، ودعوتُ الله أن يبارك في هذه الأسرة الوليدة والزوجة الواعية، وتمنيتُ أن تكون هكذا كل بنات المسلمين.

 

وحين لقيتها اليوم لم تكن هي، حزنتُ حزنًا شديدًا، وسألتها عما بها، فانهمرت دموعها وظهر وجهها الجميل وكأنه وجه عجوز وهي ابنة الخامسة والعشرين، قالت كلمة هزتني، بل صعقتني: (لقد طلقني).....

 

لم أستطع أن أستوعب الكلمة في البداية وتماسكت، وقلت لعلني لم أسمع جيدًا فقلت ماذا؟!!، قالت: لقد طلقني، قلت لها: كيف ولماذا؟ بعد كل هذا الحب؟ بعد كل تلك النوايا الطيبة؟ وكيف يبيع كل هذا؟ ومَن السبب؟، وأي سببٍ هذا الذي يُحطِّم أسرة بُنيت على طاعة؟ وماذا فعلتِ أنتِ؟!.

 

قالت لقد قبلت قدمه ألا يُطلقني، قلتُ له أعطني فرصةً أخرى وسأفعل كل ما تريده مني، قلت له أنا لم أعرف غيرك ولم أتعلق بغيرك، قلت له أريد لابني أن نربيه معًا، قلت له أنا بعدك ضائعة، لمَن أفرح؟ ومن أنتظر؟ ولمن أعيش؟ أنت لي كل هذا، تصوري ما كان رد فعله؟، لقد قال إن هذا أمر أمي ولن أخالفها من أجلك!!... تصوري أنني لم أيأس من رجوعه، لن أنتظر غيره ولا أتصور أن أكون لغيره!!

 

هدأتها وقلت لها احكي لي عما حدث وكيف واتته الجرأة على النطق بهذه الكلمة البشعة رغم كل تلك المشاعر التي تُكنيها له؟ قالت بنرفزة كادت تحرق ما حولها من شدتها: إنها أمه، لم تتركني منذ اليوم الأول في زواجنا، لم يعجبها أي شيء أفعله، تصعد إلينا في شقتنا منذ الصباح الباكر، توقظني بشدة كي انتهي من ترتيب بيتي ثم أنزل إليهم لإعداد الإفطار للأسرة ولابنتها التي تأتي بأولادها باكرًا تفطر وتترك الأولاد وتذهب لعملها، ثم أحضر الغداء للجميع وأرعى أولاد ابنتها وأنظف المكان، ثم تنظيف ملابس الجميع، وهكذا كل يوم دوامة لا تنتهي.

 

وإذا انتابني بعض التعب فصعدت إلى شقتي التي هي في نفس بيتهم وجاء زوجي استقبلوه بالشكوى لأنني تركتهم بقلة ذوق، ثم كلمات أخرى عن أنني أظل عندهم فقط لتناول الطعام ثم أتركهم، ثم الانتقادات الكثيرة لي أمام زوجي الذي لا يرد بكلمة خوفًا منهم عن شكلي وملابسي وبيتي ونومي وحتى ما أتناوله من طعام، وبعد كل هذا ذهبت صحتي من كثرة خدمتهم، وضاعت مني القدرة على العناية بابني بجوار أبنائهم ولم أعد أدري كيف أرضي زوجي، وقد ازدادت الهوة بيننا يومًا بعد يوم بسبب كثرة الكلام منهم ضدي، طلبت منه أن ننفصل في بيتنا، طلبت أن أقضي معه وقتًا أكبر، طلبتُ منه ذلك كي أستطيع أن أكون له الزوجة التي يريد لكنه لم يقبل بحجة أنه لا يستطيع أن يغضب أبويه، وأنه يستطيع أن يعوض زوجته لكنه لا يستطيع أن يعوض أمه!

 

وفي لحظة كنت أتوسل إليه أن يتركني في بيتي ويقضي هو الوقت معهم كيفما يشاء؛ ألقى عليَّ يمين الطلاق، وطلب مني الذهاب إلى أهلي، استحلفته بالله أن يبقيني أملاً في أن يراجعني أو يعود لعقله، لكنه أبى وجذبني بشدة وأخرجني من بيتي، صرخت وجريت على أمه وقلت لها انصحيه بألا يفعل من أجل هذا الطفل الذي بيننا، لكنها قالت لو كان عندك كرامة أخرجي واذهبي لأهلك، وها أنا ذا، صرتُ وحدي أنتظره عسى أن يعود.

 

كثيرة هي تلك الرسائل التي نوجهها إلى كل زوجة مسلمة وكل زوج مسلم كي يحافظوا على أجمل الروابط الأسرية وأجمل المشاعر الإنسانية التي تحفظ للأم مكانتها، أي أم سواءً كانت أم الزوج أو أم الزوجة، وقد حفظ الإسلام للأم مكانةً عاليةً في قلوب الأبناء وأوصى بالبر بها في كلمات تلت التوصية بتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء: من الآية 23)، وكثيرًا ما تحتمل الأم من أبنائها الكثير من العنت والتبرم وبعض الألفاظ التي لا تليق بمكانة الأم؛ وذلك طالما أنهم كانوا في بيتها وتحت جناحها، أما حين يتزوج الأبناء، خاصةً الذكور فيختلف الأمر بعض الشيء وتنظر الأم إلى الابن أنه لم يصبح لها وحدها أو أنه قد نُزع منها انتزاعًا ليكون من حقِّ زوجته فقط.

 

وتصبح كل كلمة منه تحتمل أكثر من معنى، وكلمة العتاب منه تصبح ثقيلةً وكأنه متآمر مع زوجته عليها وهي التي كانت تحتمل منه الأكثر من ذلك قبل زواجه، وتحاول الأم أن يستمر نفس دورها في حياة الابن تُنظِّم له حياته متناسيةً وجود زوجته معه وكأن تلك الزوجة بلا كيان أو استقلالية، وتستعمل عصا البر لابنها وهو في هذه الحالة يكون بين نارين، نار غضب أمه ونار التعاسة التي تزحف نحو بيته الوليد... وتنسي الأم (الحماة) أنها هي نفسها كانت يومًا زوجة، وكانت تحب أن تعيش مع زوجها في استقلالية حتى ولو بنسبة خاصة في بداية حياتهما معًا، وتنسى الأم أنها لديها بنات لها تحب لهنَّ أن يعشن مع أزواجهن كذلك في استقلالية، وأن تشعر كل منهن أن لها بيتًا تجد فيه راحتها وسعادتها.

 

عفوًا.. عزيزتي الحماة فحقك فوق رءوسنا جميعًا، وحبك وتقديرك واحترامك وبرك فرض علينا لا ننكره، ورضاك مبتغانا، وكم من وصايا كتبناها وقلناها لكل الزوجات والأزواج بكِ؛  لكن مع كل هذا نسألك الرحمة والرفق بزوجة ابنك، عامليها كابنة لك واتقي الله فيها، وسوف ترين منها كل خير، خاصةً إذا كانت على دين وخلق وتعامل زوجها الذي هو ابنك معاملةً طيبةً، تحبه وتخاف عليه وتتعلق به، تذكري يوم كنتِ مثلها، كيف كنتِ تحبين أن تكون حياتك مع زوجك الذي لم تعرفي غيره وكان هو سترك وأمانك حتى لقد صار عندك أغلى من الوالدين والإخوة.

 

تذكري كم تحبين ابنك وكم تتمنين له السعادة وراحة البال وأن سعادته تلك متعلقة برضاكِ عنه وعن زوجته ومساعدتهما أن يهنئا معًا بعيدًا عن المناوشات المعتادة والصراعات غير المتعمدة في معظم الأحوال، تذكري أن حبك لابنك يقتضي منك الصبر على بعض التجاوزات الصغيرة من زوجته، والتي قد تكون ناتجةً عن عدم الخبرة بالحياة، والذي يكون لزامًا عليكِ في هذه الحالة أن تعلميها برفق وحنان الأم.

 

عزيزتي الحماة: حقك فوق رءوسنا، لكن رجاءً منا أن تكوني خير أم ونحن لك خير الأبناء.