مِنْ حُقُوقِ الأُخُوَّة وآثارِهَا

(4) الصَّبْرُ عَلَى خَطَإِ الأَخِ حتَّى يرجِعَ للحقِّ

من غير تشهيرٍ به أو إشاعةٍ لِزَلَّاتِه، والتماسُ أسبابِ عودتِه إلى الاستقامةِ والصواب، فالمؤمنُ كما قال ابنُ المبارك: «يطلُبُ المعاذِيرَ، والمنافقُ يطلُبُ العَثَرات».

قال أبو الدَّرْدَاء: «إِذَا تغيَّرَ أَخُوكَ وحَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا تَدَعْهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَخَاكَ يَعْوَجُّ مَرَّةً، وَيَسْتَقِيمُ أُخْرَى».

وَقَالَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: «لَا تَقْطَعْ أَخَاكَ وَلا تَهْجُرْهُ عِنْدَ الذَّنْبِ، فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُهُ الْيَوْمَ وَيَتْرُكُهُ غَدًا».

وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا كَفَى الْمَرْءُ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ: «مِنْ حُقُوقِ الْمَوَدَّةِ: أَخْذُ عَفْوِ الْإِخْوَانِ، وَالْإِغْضَاءُ عَنْ تَقْصِيرٍ إنْ كَانَ».

وجاءَ في بعضِ الآثارِ: أنَّ عيسَى عليه السلامُ قال للحَوَارِيِّين: «كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا رَأَيْتُم أَخَاكُمْ نَائِمًا وَقَدْ كَشَفَ الرِّيحُ ثَوْبَهُ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَسْتُرُهُ وَنُغَطِّيه، قَالَ: «بَلْ تَكْشِفُونَ عَوْرَتَه!» قَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ! مَنْ يَفْعَلُ هذَا؟ فقال: «أَحَدُكُمْ يَسْمَعُ بِالْكَلِمَةِ فِي أَخِيهِ فَيَزِيدُ عَلَيْهَا وَيُشِيعُهَا بِأَعْظَمَ مِنْهَا».

 وحتى حين تختلِفُ بالإخوانِ الآراءُ فإنَّ رابطةَ الأُخُوَّةِ ومروءةَ المؤمنِ تحمِيهم من الوقوعِ في الأعْراضِ، أوْ إِشاعةِ الشُّبُهات، أوْ تَرْديدِ المفْتَريات، أو التخلِّي عن أدبِ الوفاء، وهم يحفظُون كلمةَ حكيمِ الفُقهاء الإمامِ الشافعيِّ رحمه الله: «الحُرُّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ، وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَه لَفْظَةً».

(5) حِفظ حرمة الأخِ في الخلطة الافتراق

وهو ما لخَّصه الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ رحمه الله في قوله: «نَظَرُ الأخِ إلى وجهِ أخيهِ على المودَّةِ والرحمةِ عِبادةٌ، فلا تصِحُّ المحبَّةُ في اللهِ عزَّ وجلَّ إلا بما شَرَطَ فيها من الرحمةِ في الاجتماعِ والخُلْطِة، وعندَ الافتراقِ: بظهورِ النَّصيحةِ، واجتنابِ الغِيبَةِ، وتمامِ الوفاءِ، ووُجودِ الأُنْسِ، وفَقْدِ الجَفَاءِ، وارتفاعِ الوَحْشَة».

 وكان يقول: «إذا وقعت الغِيبَةُ، ارتفعتْ الأُخُوَّة».

وما ألْطفَ قولَ أحدِ السَّلَفِ يُخاطِبُ أخاه الذي هجَرَه:

هَبْنِي أَسَأْتُ كَمَا تَقُولُ      فَأَيْنَ عَاطِفَةُ الْأُخُوَّة

أَوْ إِنْ أَسَأْتَ كَمَا أَسَأْتُ     فَأَيْنَ َفَضْلُكَ وَالْمُرُوَّة

فليسَ من أخلاقِ الأخِ المسلمِ في شيءٍ أنْ يلتمسَ أسبابَ العيْبِ لِمَنْ خالفَه من إخوانِه أو مِنْ غيرِهم، أو أنْ يسعَى في الانتقاصِ من فضلِه، أو التحقيرِ من عملِه وعطائِه، ويَنْتَصِحُ الإخوانُ بنصيحةِ الفاروقِ عُمَرَ بنِ الخطَّاب لغلامِه أَسْلَم -كما في الأدب المفرد للبخاري-: «لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلا يَكُنْ بُغْضُكَ تَلَفًا»، قالَ: وكيَف ذلك؟ قالَ: «إِذَا أَحْبَبْتَ فَلا تَكْلَفْ كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِالشَّيْء يُحِبُّهُ، وَإِذَا أَبْغَضْتَ فَلا تَبْغَضْ بُغْضًا تُحِبُّ أَنْ يَتْلَفَ صَاحِبُكَ وَيَهْلِكَ».

وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق عن الحسن قال: «لا تُفْرِطْ فِي حُبِّكَ، وَلا تُفْرِطْ فِي بُغْضِكَ، مَنْ وَجَدَ دُونَ أَخِيهِ سِتْرًا فَلا يَكْشِفْهُ، لَا تَجَسَّسْ أَخَاكَ؛ فَقَدْ نُهِيتَ أَنْ تَجَسَّسَهُ، ولَا تَحْفِرْ عَلَيْهِ، وَلَا تَنْفِرْ عَنْهُ».

النّصِيحةُ بآدابِها الشَّرعية

فلا تعييرَ ولا تشنيعَ ولا تشهيرَ، ولا تجريحَ للأشخاصِ ولا للهيْئاتِ، ولا كشفَ لأسرارِ الناسِ، ولا اختلاقَ ولا كذبَ، ولا تبريرَ للخطإ، ولا مجاملةَ على حسابَ الحق، ولا رغبةَ في التَّشَفِّي ولا انتصارَ للهَوَى، بل هي نصيحةٌ أمينةٌ صادقةٌ، تَبْرَأُ بها الذِّمَّةُ، وتُؤَدَّى بها الأمانةُ، مع بقاءِ المودَّةِ ونَمَاءِ عاطفةِ الأُخُوَّة، وهذا نبيُّ اللهِ هُودٌ عليه السلامُ يقولُ لقومِه الكافرين ﴿وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ﴾، فكيفَ لوْ كانوا مُؤْمنين؟.

أخرج أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ».

وفي رواية عند الترمذي: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ».

ولْيضع الأخُ نفسَه دائمًا موضعَ أخيه المنصوحِ، ومثلَما يحبُّ أنْ تُقّدَّم إليه النصيحةُ فليكُنْ تقديمُه النصيحةَ لإخوانِه.

وعموما فهذه جملة مختصرة من حقوق الأخوة ذكرها ابن مفلح رحمه الله تعالى:

«ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ، وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ، وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ، وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ، وَيُوَالِيَهُ، وَلَا يُعَادِيَهُ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْلِمَهُ، وَلَا يَخْذُلَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ»

أُخُوَّتُنا أحدُ أسرارِ قُوَّتِنا

إنَّ هذه الأُخُوَّةَ التي نُذَكِّرُ ببعضِ حُقوقِها أيُّها الإخوانُ هي الصخرةُ التي تتكسَّرُ عليها موْجاتُ المكرِ ومحاولاتُ النَّيْلِ من دعوتِنا المباركة، وهي أوَّلُ أسبابِ النصر ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 أَيًّها الإخوانُ المسلمُون، لقد أعلنَها نبيُّنا واضحةً صريحة، فيما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيث، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا».

وفهمَ المسلمُون الأوَّلُون رضوانُ الله عليهم من الإسلامِ هذا المعنى الأخويَّ الرَّاقي، وأَمْلَتْ عليهم عقيدتُهم في دينِ الله أَخْلَدَ عواطفِ الحبِّ والتآلفِ، وأَنْبَلَ مظاهر الأُخُوَّةِ والتَّعارُفِ، فكانوا رجلًا واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدةً، فحقَّقَ الله لهم وبهم النصرَ والعِزَّ والتمكين، فهل أنتم فاعلون كما فعلوا ومقتدون بما صنعوا؟!

أين أخوك منك؟

أَتَدْرِى أَيْنَ سُكْنَاهُ أَخُوكَ وَأَيْنَ مَسْعَاهُ؟

وَهَلْ عَيْنَاكَ تُثْبِتُهُ إِذَا فَاتَتْكَ عَيْنَاهُ؟

لَئِنْ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا فَصَدْرُكَ أَنْتَ مَأْوَاهُ

أَخُوكَ يَعِيشُ كَالتَّارِيـــ ـخِ فِى جَنْبَيْكَ مَسْرَاهُ

بِلَا لُغَةٍ تُصَافِحُهُ وَتَدْمَعُ حِينَ تَلْقَاهُ

لَئِنْ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا فَصَدْرُكَ أَنْتَ مَأْوَاهُ

وَتَسْمُو دُونَمَا مَنٍّ تُخَفِّفُ عَنْهُ بَلْوَاهُ

وَتَرْفَعُ دُونَهُ حِمْلًا إِذَا كَلَّتْ ذِرَاعَاهُ

لَئِنْ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا فَصَدْرُكَ أَنْتَ مَأْوَاهُ

وَتُسْدِلُ حَوْلَهُ سِتْرًا إِذَا الشَّيْطَانُ أَغْوَاهُ

تَرَى أُخْرَاكَ مُثْمِرةً فَقَدْ أَخْصَبْتَ دُنْيَاهُ

لَئِنْ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا فَصَدْرُكَ أَنْتَ مَأْوَاهُ

وأختم بهذه القصة التي رواها ابن أبي الدنيا عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: «إِنَّا لَوُقُوفٌ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ، فَإِذَا شَابَّانِ عَلَيْهِمَا الْعَبَاءُ الْقَطَوَانِيُّ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ: يَا حَبِيبُ، فَأَجَابَهُ الْآخَرُ: لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْمُحِبُّ، قَالَ: تَرَى فِي الَّذِي تَحَابَبْنَا فِيهِ وَتَوَادَدْنَا فِيهِ يُعَذِّبُنَا غَدًا فِي الْقِيَامَةِ؟.

قَالَ: فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا، سَمِعَتْهُ الْآذَانُ، وَلَمْ تَرَهُ الْأَعْيُنُ يَقُولُ: لَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ».

 فلْنَستمسِكْ بهذهِ الأُخُوَّةِ الخالدةِ التي تزولُ الدُّنْيا ولا تزُولُ، وتَفْنَى الأيامُ وهي أبْقَى من الزمنِ، ولْنحرِصْ على أداءِ حُقُوقِها، واستشعارِ قيمتِها، وخصوصًا في هذه الظروف التي تمرُّ بها الدعوةُ والأُمَّةُ، فعلى صخرةِ الأخوَّةِ ستتحطَّمُ كل مكائدِ الكائدينَ بإذن الله، ولْنُحافِظْ على وِرْدِ الرابطةِ اليوميِّ.

واذكروا أخاكم عند الدُّعاء بدعوة، واللهُ معكم ولنْ يَتِرَكُم أعمالَكم، والله أكبر ولله الحمد.