أفرد الله تعالى قصةَ يوسف عليه السلام بسورة خاصة، ووصف قصتَه بأحسن القَصص، وقد استخرج أهل العلم منها مئات الدروس والفوائد، وهنا أشير إلى الأدب العالي في حديث يوسف بعد أن جعل الله رؤياه حقا، وأظهر فضله على إخوته، إذ لم يُرِدْ يوسف أن يذكر ما يُكدِّر صَفْوَ اللقاء بين العائلة بعد طول فراق، وهو يقص عليهم ما مرَّ به من محن وأحداث.

 

(1)     لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ

أعلن لهم عدم مؤاخذتهم أو لومهم حين اعترفوا بخطئهم بين يديه ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ. قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. يعني: لا لومَ، ولا توبيخَ، ولا مؤاخذةَ، ولا عتْبَ على شيْءٍ، ولا أُعَيِّرُكُمْ بِمَا صَنَعْتُمْ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا، بل أدعو الله أن يغفرَ لَكُمْ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وكأنه لكرمه رأى ما غشي وجوههم من الخجل والحياء فاكتفى به، كما قيل: «كَفَى للْمُقَصِّرِ الحيَاءُ يوْمَ اللِّقَاء».

 

ومن اللطيف أن بعض أهل العلم قارنوا بين مبادرة يوسف بالاستغفار لهم من غير طلب منهم، بينما أرجأهم يعقوب عليه السلام حين طلبوا منه ذلك وقالوا ﴿يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾.

 

فقد أخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: «طَلَبُ الْحَوَائِج إِلَى الْأَحْدَاثِ (مِنَ الشَّبَابِ) أَسْهَلُ مِنْهُ مِنَ الشُّيُوخِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ﴾ وَقَالَ يَعْقُوبُ: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾».

 

(2)   إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ

قوله ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ولم يذكر إخراجه من الجُبِّ مع كون الإلقاء في الجب أشد بلاء من السجن، ومع أنهم لم يعلموا بقصة السجن أصلا؛ للوجوه التالية:

(1) استعمالا للكرم، حتى لا يُحْرِج أو يُخْجِل إخوتَه بتَذْكيرِهم بجرم إلقائِهم إياه في الجُبِّ بعد تآمرهم عليه، بعد ما قَالَ لَهُمْ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وقد قيل: «ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا جَفَا»، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ.

 

(2) لأن دخول السِّجْنَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، أما إلقاؤه فِي الْجُبِّ فَكَانَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ.

 

(3) ومن جهة ثالثة: فَإنَّ وُقُوعَهُ فِي الْبِئْرِ كَانَ لِحَسَدِ إخوته له، واستمراره في السجن بضع سنين كان مُكَافَأَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى على زَلَّةٍ كَانَتْ مِنْهُ، إذ ﴿قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾.

 

(4) ومن جهة رابعة: فإدخاله السجن كان بسبب قوة إيمانه، وعدم استسلامه لغواية امرأة العزيز والنسوة، بقصد إذلاله، كما قالت امرأة العزيز ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾، فكان الكربُ فيه أكبرَ، وخروجُه منه كان غايةَ العزِّ بإعلانِ كمالِ براءتِه على الملإِ باعترافِ امرأة العزيز وصواحبِها، حتى ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

 

 (5) ومن جهة خامسة: فإنَّهُ كَانَ فِي الْجُبِّ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فكان مرفوقًا به مع صغره، وَكان فِي السِّجْنِ مَعَ اللُّصُوصِ وَالْعُصَاةِ بعد أن بلغ أشده.

(6) ومن جهة سادسة: فإن مدة بقائه في السجن كانت أطول بكثير من مدة بقائه في الجب.

(7) وأخيرا: فإن نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجُبِّ صَارَ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، ووقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ صَارَ إِلَى العز والْمُلْكِ، ثم وصل إلى أبيه وإخوته، فكان هذا أقرب إلى المنفعة.

 

(3)   وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو

قوله ﴿وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو﴾ أي البادية، فيه جملة آداب:

(1) أنه قال: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ ولم يقل: «رفع عنكم جهد الجوع والحاجة»؛ أدبًا معهم، وصيانة لكرامتهم وعزتهم.

(2) التأكيد على أنهم أهل حاضرة لا أهل بادية، وأن مجيئهم من البادية لم يخرجهم عن كونهم حاضرة، كما أن البدوي لو جاء إلى الحاضرة للبلد ومكث فيها أياماً أو أشهراً ثم رجع لا يقال: إنه حضري، فيعقوب وأولاده ليسوا من سكان البادية، ولكنهم خرجوا إلى البادية ثم جاءوا من البادية إلى مصر، لأن الرسل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، كما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾.

 

(3) مع أنه هو الذي هيأ لهم المجيء ودعاهم إليه حين قال ﴿وَائْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فإنه نسب المجيء بهم إلى الله، وجعله من جملة إحسان الحق إليه وإليهم بحكم التبعية، فهو ثناء على الحق بما فعل مع إخوته ومعه، وإبعادٌ لشعورهم بالمنَّة التي قد تفضي إلى التخجيل.

 

(4) قوله ﴿بِكُمْ﴾ يشمل إخوته وأبويه، إشارة إلى أنه كما سُرَّ برؤية أبويه سُرَّ بإخوته، وإن كانوا أهل الجفاء، لأنّ الأخوّة سبقت الجفوة.

 

(4)  مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي

قوله ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ فيه جملة آداب:

(1) طوى ذكر ما وقع من إخوته واكتفى بالإشارة إلى نزغ الشيطان، وفي هذا التماس يوسف عليه السلام العذر لإخوته فيما صنعوا به.

(2) قوله ﴿بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ قمة الإحسان؛ إذ لم يكن بينه وبين إخوته نَزْغُ الشيطان؛ بل هم الذين استجابوا لوسوسة الشيطان، وتآمروا عليه واحتالوا على أبيهم وسَعَوْا به إلى أن يقتلوه أو أن يَطْرَحوه أرضًا أو أن يُلْقوه في الجُبِّ، ومع ذلك قال هذا من باب الفتوة والمروءة والكرم، والتماس ما يشبه العذر لهم؛  تأدُّبا معهم حتى لا يُحْرِجَهم.

 

(3) لم يقل «بيني وبينكم»، وإنما استخدم لفظ ﴿إِخْوَتِي﴾ لإشعارهم بأن عاطفته لم تتغير تجاههم بعد كل ذلك.

(5)              إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ

اللَّطيفُ: هو الذي يصلُ إلى تمامِ غرضِه في خفاءٍ ورفقٍ، من حيث لا يشعُرُ به الآخرون ولا يَحْتَسِبون، و من مظاهر لطفه تعالى في قصة يوسف:

(1) كيد إخوته كان لُطفًا، نُقِلَ على أثره إلى مصر، لينشأَ في قصر العزيزِ.

(2) شراء العزيزِ وامرأتِه بعد أن حرَمهما اللهُ الولدَ كان لُطفًا، ليكونَ محلَّ الإكرامِ في القصر.

(3) تعلُّقُ قلبِ امرأةِ العزيزٍ به، حتى راوَدَتْه عن نفسِه، وساقته إلى السجن كان لطفا، ولولا ذلك لَبَقِيَ عبدًا في قصرها إلى النهاية.

(4) وجود الفتيين معه في السجن، وصِدْقُ تعبيره لرؤياهما كان لطفا، فلما احتاج الملِكُ إلى مُعَبِّرٍ ظهرتْ منزلتُه.

(5) نسيانُ الناجي من الفتيين ذكرَه عند الملِكِ كان لطفا حتى لا يكون خروجُه من السِّجْنِ مَكْرُمَةً من أحدٍ، وحتى تظهرَ براءتُه ومنزلتُه باعترافِ النِّسْوةِ بعد ذلك.

(6) وقوعُه في قلبِ الملِكِ حتى قال ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾، وأجابه إلى طلبه ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾، كان لطفا إذ مكَّن اللهُ له في الأرضِ.

 (7) كِبَرُ نفس يوسفَ التي لا تسعَى للانتقامِ ولا تُفَكِّرُ في القصاصِ، ولا يدفعُها وَجَعُ المحنةِ وطُولُ الشدَّةِ إلى التغيُّر، كان أكبر الألطاف، ولا شكَّ أنَّ أصحابَ النفوسِ الكبيرةِ أكثرَ احتمالًا للبلاءِ وصبرًا على الأذى، جعلنا الله منهم.