تؤكد دراسة حياة سيد قطب أنَّ أفكاره قد تطورت تطورًا كبيرًا من فترةٍ لأخرى ففي بداية حياته العملية اهتمَّ بالكتابةِ في الصحف وإن فضَّل التدريس على الصحافة، كانت كتاباته أدبية بالدرجة الأولى؛ حيث اهتمَّ بالمعارك الأدبية في ثلاثينيات القرن العشرين حتى أصبح ناقدًا أدبيًا يُشار إليه بالبنان، وفي نهاية العقد الثالث تحول إلى الكتابة الاجتماعية خصوصًا بعد إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية وبروز مجلتها "الشئون الاجتماعية" فشارك فيها بمقالاته الاجتماعية حتى أصبح أبرز كُتَّابها بسبب العلاقة التي ربطت بينه وبين وزير الشئون الاجتماعية "عبد العظيم عبد الحق" ثم لجودة مقالاته التي بحثت في جذور المشكلات الاجتماعية ووضعت الحلول المنطقية لها.

وفي تلك الفترة التفتت أنظار الإخوان المسلمين إلى سيد قطب لمقالٍ كتبه عن العري على الشواطئ ذكر فيه أفضل الحلول هي ترك الشواطئ لاهية لاعبة فذلك خير ضمان للأخلاق بحجة أنَّ الجسد العاري لا يُثير الشهوة، وقد توصلنا إلى أنَّ ذلك المقال ليس دليلاً على مجون سيد قطب بل دليل على محاربته للفساد الخُلقي بطريقة غير مألوفة- لا نوافق عليها- ودليلنا أنَّ مقالاته جميعها لا يوجد بها حضٌّ على الفساد، بل كان دائمًا يحارب الغناء الماجن ولا يسمح بحرية الاختلاط ويضع القيود عليها، واعتبرها سببًا من أسباب الأزمة الزوجية وحارب البغاء ووضع الحلول المنطقية للقضاء على دور البغاء بمحاربة منابعه ورعاية البغايا لمساعدتهم على التوبة، ولم يكتف بالنص على تجريم البغاء في القانون.

اهتمامه بالفقراء

وغلب على اهتماماته دراسة مشكلات الفقر والجوع في الأرض، والدعوة للارتقاء بالقرية والمدينة وتقريب الفوارق بين الطبقات، وفرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء مع دعم الاحتياجات الأساسية للفقراء وربط الأجور بالأسعار، ومحاربة الغلاء المصطنع، وجشع التجار، واقترح إعطاء المواطنين حق الضبطية القضائية، وبذلك كان أول مَن دعا إلى ضرورة إشراف الدولة على الأسعار حماية للفقراء.

وكان يؤمن بأهمية دور الدولة لذا طالبها بالتدخل وفرض الإصلاح بقوة القانون فاقترح إصدار مجموعة قوانين أخذت الدولة برأيه في بعضها وأهملت البعض الآخر حينًا من الزمن، ومن ذلك أنه طالب بإصدار مشروعي قانون النقابات وقانون عقد العمل وقانون آخر يضع حدًا أدنى للأجور مع تعديل الحد الأقصى لساعات العمل وتعديل قانون إصابات العمل وكانت دعوته عام 1941م.

واعترفت الحكومة بالنقابات العمالية في 6 سبتمبر عام 1942م وصدر القانون رقم 72 لسنة 1946م الخاص بتنظيم ساعات العمل في المحال التجارية ودور العلاج والقانون 106 لسنة 1948م للتوفيق والتحكيم في منازعات العمل ثم قانون عقد العمل الجماعي، مما يعد تنفيذًا لاقتراحات قطب وغيره من المصلحين.

مشكلة الهجرة

ومن المشكلات التي تعرَّض لها قطب ولا زالت الدولة تبحثها إلى الآن مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة والتي ناقشها في الأربعينيات ونادى بضرورة حلها عن طريق توفير فرص العمل في الريف والتوسع في استصلاح الأراضي وتوفير الخدمات لأهل الريف مع الاهتمام بالصناعات الزراعية وتحسين السلالات الحيوانية، كما طالب بالإسراع في إصدار قانون التأمين على الماشية، وهي مقترحات تسعى الدولة لتطبيقها اليوم في محاولةٍ منها لسد الفجوة الغذائية.

ثم تحول من اقتراح إصدار القوانين إلى نشر نماذج لقوانين دعا الدولة إلى الأخذ بها وكان قد نشرها في مجلة الفكر الجديد عام 1948م منها قانون بفرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء وآخر يحدد الملكية الزراعية بمائة فدان للفرد مع رد كل الأراضي للدولة دون تعويض لتوزيعها أو تأجيرها للفلاحين ثم يصبح ملكًا لهم بعد عشر سنوات، وقد أيدت حكومة اقتراحاته الخاصة بتحديد الملكية في قانون الإصلاح الزراعي عام 1952م.

نظرية للعدالة

ثم تطور فكره، ووضع نظرية اجتماعية إسلامية لتحقيق العدالة الاجتماعية والجديد فيها أنه أوضح أسس وقواعد ووسائل تحقيق العدالة من منظورٍ إسلامي، واستنبط مفرداتها من الإسلام وقارن بين النظام الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام من ناحية وبين النظم والاقتصادية الأخرى، ثم دعا إلى إقامة مجتمعٍ إسلامي مبرزًا خصائصه، محاولة منه للفت أنظار رجال الثورة وحثهم على تحويل المجتمع المصري إلى مجتمع ينفذ تعاليم الإسلام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. إلخ.

وكانت له رؤية خاصة في التعليم حيث اهتمَّ برفع المستوى العلمي والمادي والأدبي للمعلمين وهو منهم وتوفير الاحترام والتقدير لهم، وطالب بإصلاح مناهج اللغة العربية والتخفف من أبواب الصرف وتبسيطها والاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية خصوصًا الإنجليزية والعبرية في المعاهد العليا وعارض تدريس اللغات في التعليم الابتدائي حتى لا ينشغل عقل التلميذ بلغتين في وقتٍ واحد، ويكون اهتمامُه الأول بدراسة اللغة العربية ولفت الأنظار إلى خطورة تدرس اللغات في مرحلة التعليم الابتدائي، وطالب بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي من وجهة نظر إسلامية تعتمد أساسًا على المصادر العربية والإسلامية والرؤية الإسلامية لأحداث التاريخ مع الاستفادة من الأسلوب الغربي في مناهج البحث التاريخي، كما طالب بأن تنبع المناهج من البيئة والثقافة المصرية مع عدم الاستفادة من التقدم العلمي لدول أوروبا والعمل على ربط التعليم بالواقع وحاجات المجتمع.

قضايا المرأة

ناقش قطب قضايا ومشكلات المرأة المصرية مثل الاختلاط والزواج والطلاق وتعدد الزوجات، وكان رأيه أنَّ تعدد الزوجات أمر مباح فقط وليس على سبيل الإلزام الفردي، كما ناقش قضية عمل المرأة وفضل أن يكون عملها مناسبًا واقترح مهنًا بعينها مثل التدريس، والطب، وإن كان يرى أنَّ الأولى لها أن تربي أولادها فذلك أفضل لها وللمجتمع، كما أنَّ على المرأة أن تتثقف ثقافة تساعدها على تربية أولادها وحفظ بيتها وزوجها.

ثم تحول إلى الكتابة السياسية عام 1945م ، وكان قد كتب قبل ذلك مقالاتٍ سياسية في موضوعات متفرقة، وقد شغلت القضية الوطنية فطالب بالجلاء ووحدة وادي النيل ورفض أسلوب المفاوضات لعدم جدواه، واشترك في المطالبة بإلغاء معاهدة 1936م والدعوة إلى الكفاح المسلح ضد الإنجليز عام 1951م وعندما استجابت الحكومة الوفدية للضغوط الشعبية وألغت معاهدة 1936م، طالبها بمساندة كفاح الفدائيين في القناة وحذَّر من التحالف مع الإنجليز أو الدخول في أحلافٍ عسكرية.

قضية فلسطين

وناقش قضية فلسطين- قضية العرب والمسلمين الأولى- وشارك في الدفاع عنها بمقالاته وفضح سياسة إنجلترا التي سمحت بالهجرة إلى فلسطين ، كما ندد بمسلك العرب وتقاعسهم تجاهها، ورأى أنَّ العداء بين اليهود والمسلمين ضاربٌ في أعماقِ التاريخ، بل إنَّ اليهود كانوا وراء كل إفسادٍ في الأرض ووراء كل فتنة حدثت في الدولة الإسلامية، وكانت له نظرة بعيدة المدى؛ حيث نادى بتعمير سيناء وإقامة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية فيها وتوطين المصريين بها حتى تتحول إلى خط دفاع أول ضد أطماع اليهود، وقد تحققت أطماعهم فيها باحتلالهم لها عام 1967م وتتجه الدولة بعد تحرير سيناء لتعميرها وتوصيل مياه النيل إليها واستصلاح أرضها، وذلك تمشيًا مع ما طالب به قطب في أواخر الأربعينيات ونادى به غيره من المصلين.

وكانت كتاباته تحارب الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وتحذر من الاستعانة بمستعمر على آخر، ونادى بوقوف البلاد الإسلامية كلها موقفًا موحدًا ضد الاستعمار ثم تطورت دعوته فدعا إلى أنَّ تتكتل الدول الإسلامية في وحدة واحدة يجمع بينها "اتحاد كونفترالي" على أساس العقيدة الإسلامية.

وقد رفض الدعوة القومية العربية إذا انفصلت عن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ورحَّب بها إذا كانت خطوة نحو الوحدة الإسلامية الكبرى.

عهد الثورة

وعندما قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م أعلن تأييده لها وتبني أهدافها ودافع عن شرعية وجودها بمقالاته الصحفية.

وكانت علاقته وثيقة بالثوار وازدادت توثقًا بعد قيام الثورة فكان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادتها؛ بل إنَّ الثوار تأثروا بكتاباته ومقالاته ومنها كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام "الذي قرأه معظمهم.

وبسبب شدة تأييده للثورة أطلق عليه لقب ميرابو الثورة المصرية تشبيهًا له بميرابو أشهر خطباء الثورة الفرنسية؛ لأنه أيَّد كل مطالب الثورة فأعلن تأييده لقانون الإصلاح الزراعي وندد بمحاولة الأحزاب احتواء الصورة، ووقف معاديًا بحركة عمال كفر الدوار واتهم الشيوعيين بتدبيرها.

وطالب بإلغاء دستور 1923م كما طالب محمد نجيب بتطبيق ما أسماه دكتاتورية عادلة لمدة 6 شهور حتى تستقر الأمور والأوضاع للثوار وتتدعم سلطاتهم السياسية، ثم اتزنت علاقته برجال الثورة فطالب بالإفراج عن المسجونين السياسيين بما فيهم الشيوعيين، وحاول لفت انتباه الثوار إلى أهمية بناء مجتمع إسلامي لكنهم تحولوا عن ذلك وبدأ الخلاف يزداد بينهم وبين الإخوان المسلمين فأخذ جانب الإخوان حتى تمَّت محاكمته عام 1954م بتهمة الإشراف عن المنشورات السرية ضد الحكم الثوري وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة 15 عامًا.

قضية جاهلية المجتمع

كانت مرحلة السجن مرحلة جديدة غيَّرت علاقاته بجميع الأطراف سواء الثوار أو الشيوعيين أو الإخوان المسلمين أنفسهم، وأصبحت فترة تأمل وإعادة تفكير في مسيرة الحركة الإسلامية ودراسة الظروف التي مرت بها ومحاولة إعداد برنامج يمكن أن تسير عليه الجماعة الإسلامية، يعتمد على التربية طويلة المدى ورفض الانشغال بأمور الحكم والسياسة، وعدم السعي للاستيلاء على الحكم بالقوة، فالتربية الطويلة وإعادة زرع العقيدة هما السبيلان لإقامة الحكم الإسلامي من وجهة نظره؛ حيث تحوَّلت أفكاره بعد أن كانت تدعو على إعداد برامج إصلاحية تتخذ من القانون سندًا وتعمل على حل مشكلات المجتمع إلى التفكير في إعادة بناء مجتمع إسلامي.

كانت فكرته المحورية أنَّ المجتمع جاهلي لأنه يرفض حاكمية الله تعالى ولا يعترف بمنهجه في الحياة، ومن ثَمَّ امتنع عن وضع الحلول لمشكلات المجتمع الذي لا يحكم بالإسلام وعدَّ مَن يُقدِّم حللاً للمجتمع الجاهلي مستهزءًا بالإسلام.

فالواجب أن يطبق المجتمع تعالم الإسلام في نواحي الحياة، وأن يفهم المعنى الحقيقي لكلمة "لا إله إلا الله" في الإسلام؛ من وضعة نظره؛ وقد اعترض كثير من الفقهاء والعلماء على رأيه في هذه الجزئية.

وكان بين المصطلحات المختلف علها مصطلح (الجاهلية)، وكان يقصد إطلاقه على المجتمعات التي لا تعترف بحكم الله ولا تطبق شريعته، وقد فهمتُ من تتبعي لكثيرٍ من تحليلاته أنها لا تعني الكفر وأنها تعني الجهل بشريعة الله في الشريعة الإسلامية، وتعني الكفر في المجتمعات الشيوعية وغيرها، ولم يقصد بالجاهلية تكفير أفراد المجتمع إنما وصف المجتمع كشخصٍ اعتباري بالجاهلية؛ لأنه لا يطبق المنهج والشريعة الإسلامية، فالمجتمع المكي كان قبل الهجرة مجتمعًا جاهليًا بالرغم من وجود النبي- صلى الله عليه وسلم وصحابته فيه؛ لعدم تطبقه لشريعة الله.

كما أنَّ المجتمع الإسلامي في المدينة قد جمع بين المسلمين وغيرهم من اليهود والمنافقين؛ وذلك يدل على أنَّ وصفه للمجتمع بالجاهلية لا يعني أنَّ أفراد ذلك المجتمع كفار، والمجتمع الإسلامي يجمع بين المسلمين وغيرهم.

الشورى والجهاد

أما عن الشورى فقد اعتبرها لازمة التطبيق، ولا يجوز تأجيلها وهي ملزمة للحاكم وإن خالفت رأيه والشورى تكون في الموضوعات التي لا نصَّ فيها من القرآن والسنة بحيث لا تخالف القرآن والسنة، ولا يشترط في الحاكم أن يكون بارعًا في الفقه، وإنما اشترط أن يلتزم بالحكم العادل وأن يطبق شريعة الله وإلا سقطت طاعته، وقد أثار ذلك كثيرًا من الاعتراض.

وأما عن الجهاد فقد نظر إليه باعتباره لا يقتصر عن الدفاع فقط بل يتعدى ذلك إلى إزالة العقبات التي تحول دون انتشار الإسلام، وذلك لا يعني إكراه الناس على الدخول فيه.

كما أوضح أنَّ مرحلية أحكام الجهاد ليست منسوخة وللأمة الإسلامية أن تطبق ما يلائمها من أحكامه حسب ظروفها.

وقد تأكد لسيد قطب أنه لم يستطع إقامة المجتمع الإسلامي الذي يسعى إليه عن طريق خطوات الإصلاح المتفرقة أو وضع الحلول والنظريات لمشكلات المجتمع الجاهلي المختلفة، وأنَّ الطريق هو تربية طليعة مؤمنة بعقيدة "لا إله إلا الله" بمعناها الحقيقي، ومعنى أنَّ الحاكمية لله وحده وأن تقوم هذه المجموعة بالاتصال بالمجتمع "الجاهلي" من جانب وأن تمارس العزلة من جانب آخر ورفض الانغماس في القضايا السياسية أو السعي للاستيلاء على السلطة لتطبيق الإسلام مرحليًا، فالإسلام لا يجوز فرضه بالقوة بل يجوز دعوة الناس إليه.