بقلم: صادق أمين

إن مما يدفعنا للإسراع في القراءة، والمسابقة في حفظ آيات القرآن بعض النصوص التي قد لا نفهم مرادها على الوجه الأكمل، ومن هذه النصوص قول رسول الله: "يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتِّل، كما كنت تُرتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آيةٍ كنت تقرؤها" (صحيح، رواه أبو داود).

هل المقصد بذلك القارئ من المصحف، أم الحافظ الذي يقرأ عن ظهر قلب؟!!

وللإجابة عن هذا ينبغي أن نلفت الانتباه إلى عدة أمور منها:

أولاً: حفظ ألفاظ القرآن لا يدل على ما في القلب من إيمان، والدليل على ذلك أن هناك الآلاف من حُفَّاظ القرآن، ممن حفظوه إجباريًّا في المدارس أو الجامعات أو الكتاتيب، تجد أن سلوكهم يبتعد كثيرًا عما يُرضي الله.. فهل هؤلاء الذين يجهلون على الناس، ويرتكبون ما يُغضب الله، ويتركون بعض أوامره.. هل سيُقال للواحد منهم اقرأ وارق ورتل...؟!!

إن هذا الفهم يتنافى مع أصول التفاضل بين الناس التي أخبرنا الله عنها أنها مرتبطة بالإيمان والتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: من الآية 13).

ثانيًا: الأحاديث الواردة في فضل حفظ القرآن- كله أو بعضه- مرتبطة بالعمل به، وفي المقابل نجد الوعيد الشديد لمَن يحمل القرآن ولا يعمل به.

روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: ".. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، يشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق..." وفي آخر الحديث: "والذي رأيته يُشدخ في رأسه فرجل علَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إلى يوم القيامة..." (البخاري).

إن الفضل العظيم لحفظ القرآن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمل به، فإن لم يعمل به كان وبالاً على صاحبه، كيف لا وهو يتلو على الناس آياتٍ لا يعمل بها، فيصير ما يقوله في واد، وما يفعله في وادٍ آخر، فيصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أكثر منافقي أمتي قراؤها" (صحيح، رواه الإمام أحمد والطبراني، والبيهقي).

من هنا ندرك تأنِّي الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ القرآن لدرجة أن عمر بن الخطاب ظلَّ اثنتي عشرة سنة يحفظ سورة البقرة، أما ابنه عبد الله فقد حفظها في ثماني سنوات.

وهذا أبو عبد الرحمن السلمي- وهو من كبار التابعين- وكان ممن تتلمذ على يد كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود يقول: إنما أخذنا القرآن من قومٍ أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز هذا، وأشار إلى حنكه (فضائل القرآن للفريابي).

وجمع أبو موسى الأشعري الذين قرءوا القرآن وهم قريب من ثلاثمائة، فعظّم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومَن اتبعه القرآن زجَّ به في قفاه فقذفه في النار. (أخلاق حملة القرآن للآجري).

ثالثًا: لو كان هذا الأمر الوارد في الحديث مرتبطًا بحفظ الألفاظ... أتظن أن الصحابة سيفوِّتون هذه الفرصة لعلو المنزلة، وهم الذين عايشوا القرآن، وصاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فهم أكثر الناس فهمًا لمراد أقواله صلى الله عليه وسلم.

لو تأملنا سيرتهم سنجد أمرًا عجيبًا.. سنجد أنهم كانوا يتسابقون على كثرة قراءة القرآن أكثر من تسابقهم في حفظه، بل إن الحفاظ بينهم كانوا قلة.

يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم حفظ القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به. (أخلاق حملة القرآن للآجري).

والعجيب أنه قد مات الكثير من الصحابة- بل من العشرة المبشرين بالجنة- دون أن يتموا حفظ القرآن.

أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال: قُتِل عمر ولم يجمع القرآن (طبقات ابن سعد 3/224).

ويقول الحسن البصري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم إلا النفر القليل، استعظامًا له، ومتابعةً لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه (الحسن البصري لابن الجوزي).

وليس معنى هذا هو إهمال الحفظ، بل معناه الاجتهاد في العمل بما تدل عليه الآيات المحفوظة، وعدم الاستعجال في الحفظ حتى لا يتم إهمال الفهم والعمل.

رابعًا: الحديث يؤكد أهمية التأثر بقراءة القرآن، فدرجات الجنة مرتبطة بالإيمان، ولأن كل آية في القرآن تحمل نورًا يزيد الإيمان في القلب حين يدخله لذلك كلما تأثَّر القارئ بآية وحصَّل ما فيها من إيمان ارتقى في الجنة درجة، وهذا هو أهم ما يرمي إليه الحديث، فيقال له يوم القيامة اقرأ كما كنت تقرأ في الدنيا بترتيل وتفهم وتأثر, فيزداد إيمانك, وترتفع به في الجنة بحسب ما حصلت من إيمان في الدنيا.

ولو قرأ المرء القرآن سواء كان عن ظهر قلب أو من المصحف دون تأثر وكان همه نهاية السورة أو الورد، ومن ثَمَّ لم يزدد بقراءته إيمانًا فهيهات أن يكون داخلاً في دائرة هذا الحديث.

وخلاصة القول إن المخاطب بهذا الحديث هو مَن يقرأ القرآن سواء عن ظهر قلب، أو من المصحف شريطةَ تفهمه وتأثر بآياته، وبهذا ندرك سر انشغال الصحابة بكثرة التلاوة بتفهم وترتيل، وندرك أيضًا سر حثه ومتابعته صلى الله عليه وسلم للصحابة في قراءة القرآن، أكثر من متابعته لحفظهم، ويكفيك أن الله عزَّ وجلَّ طالب نبيه في أكثر من موضع بأن يتلو القرآن (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) (النمل:92،91)، وقوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 4).

وليس ذلك فحسب بل نجد القرآن في مواضع أخرى يحدد مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تبدأ بتلاوة الآيات على من حوله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2)) (الجمعة).

فإذا ما انتقلنا إلى أحاديثه صلى الله عليه وسلم نجده يستثير الهمم لكثرة قراءة القرآن تأمل قوله: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه..." (رواه مسلم)، وقوله: "اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به" (صحيح رواه الإمام أحمد، والطبراني).

هذه الأحاديث وغيرها، وتعامل الصحابة مع القرآن على حقيقته ككتاب هداية، وتغيير، ومنبع للإيمان يرفع صاحبه عند الله كلما تزود منه.. هذا كله جعلهم يتسابقون لقراءته أكثر من حفظه، لأن الحفظ يتطلب العمل بكل ما تحمله الآيات، وهذا يحتاج إلى جهد ضخم، ويحتاج كذلك إلى قوة إيمانية متدفقة باستمرار تدفعهم إلى هذا العمل، وهذا هو المقصد من قول ابن عمر وجندب ابن عبد الله أنهم قد تعلموا الإيمان قبل القرآن.. فتعلم الإيمان إنما يكون بكثرة التلاوة، وتعلم القرآن يكون بحفظ آياته وتعلم ما فيها من علم، والقيام بما تدل عليه من عمل.

وعندما تعلموا الإيمان بكثرة التلاوة الصحيحة ساعدهم ذلك على تطبيق ما تدل عليه الآيات التي يحفظونها، فزادهم هذا التطبيق إيمانًا.

يقول جندب بن عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (رواه ابن ماجه بإسناد حسن ، وحزاير جمع حزير ، وهو الشاب الممتلئ نشاطًا وقوة وجلدًا).

ويؤكد هذا المعنى عبد الله بن عمر بقوله: لقد عشنا برهة من دهرنا، وأحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن، فتتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن نقف عليه منها، ثم رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان, فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، فينثره نثر الدقل؟ (أخرجه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين، والدقل رديء التمر).

نعم، استطاع البعض منهم أن يستكمل الحفظ، ولكن كانوا جميعًا يكثرون من التلاوة بآدابها الصحيحة التي من شأنها أن تزيد الإيمان، وترفع صاحبها عند الله.

عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ القرآن في سبع ليال كُتب من المخبتين" قلنا: فمن قرأه في خمس يا رسول الله؟ قال: "إني أخاف أن يعجلكم عن التّفهم، إلا أن تصبروا على مباكرة الليل، فمن فعل كُتب من المقربين" قلنا: ففي ثلاث يا رسول الله؟ قال: "لا أراكم تطيقون ذلك، إلا أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكبر همه أن لا يبلغ آخرها" قلنا: فإن أطقناه على تَفَهُّم وترتيل. قال: "فذلك الجهد من عباده النبيين" قلنا: ففي أقل من ثلاث يا رسول الله؟ قال: "لا تقرءوه في أقل من ثلاث". (لمحات الأنوار للغافقي).