الإحرام رمز المساواة .. والطواف رمز وحدة الهدف.

ورمي الجمار تمثيل رائع لطاعة الرحمن، والنحر تحقيق للإخاء والتكامل.

العبادات في الإسلام هي في الأصل وقبل كل شيء أمور تعبدية فرضها الله على عباده، وهم يؤدونها طاعة له، وامتثالا لأمره، والتماسا لمثوبته وأجره ولكن حكمة العليم الخبير اقتضت ألا تخلو هذه العبادات من مقاصد ومنافع، هي ممارسة عملية لمبادئ الإسلام وأهدافه وتثبيتا لقواعده وترسيخًا لمفاهيمه.

والحج فضلاً عن أنه عبادة وطاعة، وذكر لله ومناسك تؤدى بشكل خاص وفي أيام معدودات – فإنه ينطوي على أهداف نبيلة ومقاصد شريفة ومنافع يجب الاستفادة منها. يقول الحق تبارك وتعالى – في سورة الحج – (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات).

وليست المنافع مقصورة على التجارة والبيع والشراء، بل هي تتسع لكل ما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم ويشمل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك يعتبر الحج "المؤتمر الإسلامي الأكبر" يلتقي فيه المسلمون – على اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم، وتباعد ديارهم وأقطارهم – ليتعارفوا ويتعاونوا على حل مشكلاتهم والفصل في قضاياهم، وتبادل الآراء والأفكار، وبذل المساعدات المادية والروحية حتى يحققوا قول الله تبارك وتعالى فيهم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

وإذا كان الإحرام والتجرد من الثياب المخيطة هو رمز المساواة بين المسلمين جميعا أمام خالقهم فلا تفاضل أو تميز بجاه أو مال أو ثياب، ولا بلون أو جنس أو لسان، بل الكل عباد وهم أمام الواحد القهار سواء، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بتقوى الله والعمل الصالح .. وإذا كان الطواف حول الكعبة المشرفة واتجاه المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها إليها في كل صلاة، هو رمز لوحدة الهدف والغاية، وهي عبادة الله والفوز برضوانه.

وإذا كان رمي الجمار تمثيلاً رائعًا فطاعة الرحمن وعبادته، ورجمًا للشيطان ومخالفته، والدفاع عن الحق ومواجهة الباطل وإنكاره.. وإذا كان النحر تحقيقًا للإخاء والتعاون والتكافل بين المسلمين بإطعام الفقراء والمساكين في يوم العيد.. إذا كانت كل هذه المناسك والشعائر هي رموز لهذه المقاصد السامية والغايات الشريفة والمبادئ الكريمة .. فإن أروع ما في الحج – في نظري – من مقاصد وأهداف وغايات، هو تجسيد معنى أن المسلمين – على اختلاف شعوبهم وألوانهم وجنسياتهم – هم "أمة واحدة" "وطن واحد" وهذا يتجلى بأروع مظهر يوم الوقوف على عرفة. فهناك تقع العين على منظر لا مثيل له في العالم، يمثل الوحدة والإخاء والمساواة.

فجميع الحجاج الذين وفدوا من كل بلد وقطر، وقفوا في ثياب واحدة بسيطة بيضاء، رمز الطهر والصفاء، حاسرة رؤوسهم، يرفعون الأكف في ضراعة وخشوع وانكسار وخضوع، ويسألونه المغفرة وقبول التوبة، والرحمة والعفو عن الذنوب والسيئات، ويدعون ويلحون عليه في الدعاء، راجين منه العون على كل ما يحقق لهم طيب الحياة في الدنيا، والنعيم الخالد والسعادة الأبدية في الآخرة.

وفي هذا الموقف ترى العربي والهندي والفارسي والإفريقي والتركي والأفغاني، والإندونيسي والأوروبي والأمريكي، يذكرون الله وحده بلسان عربي، لا بلغة أعجمية ولا بلهجة إقليمية مرددين "لا إله إلا الله محمد رسول الله" "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. والله أكبر".

هناك على عرفات، ترى الشعوب الإسلامية – على اختلاف ديارها وتباعد أقطارها واختلاف ألوانها وألسنتها وأزيائها – قد انصهرت في بوتقة الإسلام وخرجت منها تقية زكية، لا تعرف غير قومية واحدة هي "القومية الإسلامية" ولا تعتز بصفة أكثر من أنها "الأمة المحمدية"، هناك يتجلى ويتجسد معنى أن المسلمين "أمة واحدة" وأن "الإسلام وطن وجنسية"! وصدق الله العظيم إذ يقول (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة، يعبدون ربًا واحدًا، ويتبعون رسولاً ونبيًا واحدًا، ويحكمون دستورا وقرآنا واحدًا، ويعيشون على رقعة من الأرض، إن اتسعت وامتدت من المحيط إلى المحيط، إلا أنه وطن واحد. ترى هل فقه الحجاج الواقفون على عرفات هذا المعنى؟ وهل أدركه المسلمون من غير الحجاج – وقد سن لهم أن يصوموا يوم عرفة – ليتصلوا بقلوبهم وأرواحهم بإخوانهم الحجاج؟

وهل يسعى الجميع ويجاهدون ليحققوا هذا الهدف النبيل والغاية السامية من مقاصد الحج؟ أجل على المسلمين أن يتنادوا "بالوحدة الإسلامية" بعد أن خفت أصوات الداعين إليها في عهد الظلم والطغيان، وارتفعت الأصوات المنكرة بالدعوة إلى القوميات بعد تفريغها من كل مضمون إسلامي! وهل يدرك المسلمون أن محاربة اللغة العربية ومحاولة القضاء عليها، والدعوة إلى إحياء اللهجات العامية في كل قطر عربي، هل محاولة تستهدف محاربة الإسلام نفسه، والقضاء على وحدة المسلمين التي هي ثمرة التقائهم على لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتراث الإسلامي الخالد؟

إن العمل العظيم في مغزاه ليصغر إذا جعل الناس هدفه ومرماه، وكذلك هذا الحج الذي أقام الله به دعائم الصلاح والقوة في الحياة، أصبح عند الكثيرين عبادة آلية عادية يؤدونها وخيرهم من يرجو بها المثوبة والأجر، أما ما وراء ذلك من منافع مادية وروحية واجتماعية.. أما هذه الأهداف البعيدة والغايات السامية، فإنهم لا يطيلون فيها التفكير، ولا ينظرون إليها نظرة الفاحص الخبير!

وليس الإسلام دين العبادات المجردة، ولكنه دين المقاصد النبيلة والأهداف السامية وعلى المسلمين إذا أدوا عبادتهم، من صلاة وصيام وزكاة وحج، أن يتفكروا هل انتهوا من تحقيق غايتها وأهدافها في أنفسهم، وفي مجتمعهم، وفي أمتهم ووطنهم؟ والله أسأل أن يوفق المسلمين لفقه دينهم، والعمل بكتاب الله وسنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، حتى تعود لهم وحدتهم وقوتهم، وتتحقق لهم عزتهم وسيادتهم في الدنيا، وسعادتهم في الآخرة، إنه سميع مجيب.
-----
من تراث الأستاذ صالح عشماوي