من كتا ب ( تربيتنا الروحية ) للأستاذ سعيد حوى  - دار الكتب العربية  -بيروت - دمشق

 ومن االطبعة الأولى  1399 هـ - 1979م

 نختار بعض الأبواب نعيش معها بجوار حياتنا مع أورادنا اليومية من قرآن وذكر وقيام و.... لتكون معينا لنا  فى طريقنا إلى الله

الباب الثالث

في السير إلى الله

"ماذا يعني؟ ما هي أركانه؟ ما هي نقطة البداية فيه؟

السير إلى الله يعني الانتقال من نفس غير مزكاة إلى نفس مزكاة، ومن عقل غير شرعي إلى عقل شرعي ومن قلب كافر أو منافق أو فاسق أو مريض أو قاس إلى قلب مطمئن سليم، ومن روح شاردة عن باب الله غير متذكرة لعبوديتها وغير متحققة بهذه العبودية إلى روح عارفة بالله قائمة بحقوق العبودية له، ومن جسد غير منضبط بضوابط الشرع إلى جسم منضبط انضباطاً كاملاً بشريعة الله عز وجل، وبالجملة من ذات أقل كمالاً إلى ذات أكثر كمالاً في صلاحها وفي اقتدائها برسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وحالاً. هذا كله داخل في عباراتهم في تعريف السير إلى الله وهو في مجمله كله سير إلى الله عز وجل. وبعضهم يقصر السير إلى الله على حالة وحيدة وهي حالة الانتقال من الإيمان العقلي إلى الإيمان الذوقي، ومن حالة الشعور القلبي بأفعال الله إلى الشعور بصفاته إلى الاستغراق الروحي، أو ما يسمى عندهم بمقام الفناء ثم مقام البقاء ولكن هذا في الحقيقة أحد مظاهر السير وواحد من أجزائه ومرحلة فيه.

وما أكثر الأغلاط التي ترافق هذا الموضوع عند الكثير من الناس وما أكثر الأوهام التي تصيب تصورات الناس في هذا الشأن. وما أكثر ما يختلط الجوهر بالعرض والحقيقة بالخطأ في هذا الموضوع، ولذلك كان الكلام في هذا الموضوع صعباً ومحيراً، وتقريبه وتبسيطه أمراً فيه مشقة كبيرة، فكثيراً ما تصبح الوسائل غايات والبدايات نهايات، وما هو كالمقدمة لما بعده يصبح وكأنه كل شيء ولنضرب على ذلك مثلاً: بعضهم يعتبر الوصول إلى القلب السليم المطمئن هو ذروة السير إلى الله ويعتبرون ذلك غاية الغايات وينسون واجبات كثيرة. إن الوصول إلى القلب السليم هدف ولكن القلب السليم هو الذي أصبح يتلقى أوامر الله بمنتهى التسليم والرضى ويسير الجسم به على حسب أوامر الله بكامل القوة والحيوية والجدية، ومن أوامر الله الأمر بالجهاد وجعل كلمة الله هي العليا... فأن ترى صوفياً مشغولاً بقضية القلب السليم طوال حياته وهو ناس أوامر الله باعلاء كلمته وغافل عن واجبات الوقت الكثيرة ويعتبر ما هو فيه هو الكمال مع تفريطه بكثير من الواجبات... مثل ذلك غلط كبير، إن لم نقل أكثر من ذلك، إن الفارق بين صاحب القلب السليم وغيره كما يكون في جوهر القلب يكون في صلاح العمل، وقوة الأخذ بكتاب الله وأحكامه، وقديماً كان ادعاء المعرفة بالله عاملاً من عوامل الفرار من الورع... فأي معرفة هذه تلك التي ينطفي بها مع الإنسان نور ورعه؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بالله، كان أكثر خلق الله خشية ومن ثم قال عليه السلام "إني لأتقاكم لله وأكثركم له خشية" (متفق عليه).

إن الكلام عن السير إلى الله ليس سهلاً...

أولاً: لأنه لا يمكن حصره وضبطه. وثانياً: لأن الناس في هذا الشأن أصناف ولكل مشربه الذي ألفه وحصر فيه ما لا يدخل تحت حصر وينظر إلى الأمور كلها بمنظاره الخاص به ويحاسبك على ذلك وهذا كذلك مظهر من مظاهر الغلط في هذا الشأن ومن العجيب أنك تجد عند كثير من الناس القاعدة المسلمة والعمل المخالف، فمثلاً من عبارات الصوفية المشهورة على لسان كل واحد منهم "لله طرائق على عدد الخلائق" وهي عبارة واضحة المعنى تشير إلى أن طرق الوصول إلى الله كثيرة جداً ولكنك تجد الكثيرين يربطون بين الوصول وبين معان بعينها هذه المعاني قد لا يستطيعون إقامة الدليل على اعتمادها في السنة الثابتة أصلاً فكيف يعلق أمر الوصول إلى الله وهو من أهم الأمور الشرعية على الإطلاق بقضايا لم تكن النصوص فيها واضحة وضوحاً كاملاً تدل على مفاهيم بعض من هؤلاء للأمور الآنفة الذكر، أجدني مضطراً لعرض قضية السير إلى الله عز وجل مرة ومرة ومرة بشكل ثم بآخر ليتضح الأمر في هذا الشأن وليتجنب المسلم الأغاليط، وأهم من هذا كله ليأخذ حظه من السير إلى الله على بصيرة.

إن كثيرين من الناس ربطوا بين التصوف والألغاز وجعلوه مليئاً بالأسرار فضخموا وأوهموا حتى أصبح التصوف علماً على الشيء الذي لا يمكن فهمة أصلاً، وجعلوا التصوف شيئاً خاصاً بطبقة من الناس وهو في أصله ومضمونه مطالب به كل الناس، فهل كان واحد من الصحابة إلا وله سيره الخالص إلى الله عز وجل وهل الصحابة إلا قدوة الخلق في كل شيء؟ ولماذا الدعاوى والتبجحات؟ هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي تمر عليه أكثر الطرق الصوفية على شك في ذلك، عندما سأله بعضهم: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا إلا فهماً أوتيه عبد من كتاب الله وما في هذه الصحيفة ولم يكن في الصحيفة إلا بعض الأحكام الشرعية. هذا هو الأمر: الإنسان كلما صفا حاله مع الله، دق فهمه عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إني أريد أن أرجع في التصوف إلى أصوله الصحيحة ليكون زاداً للجميع ثم لكل إنسان سقفه وفهمه وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بمعان ولكنها ليست من قبيل التكليف العام للأمة ثم إن تفسير هذه المعاني معروف، فلا يجوز لأحد أن يحملها على ما ينقض الشريعة، لقد خص حذيفة رضي الله عنه بتعريفه على المنافقين، وسر ذلك واضح وهو أن يوجد في جيل الصحابة من يضع الأمور في مواضعها إذا أصبح لواحد من المنافقين وضع ما يمكن أن يؤثر على المجتمع الإسلامي، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "أخذت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين، جراباً بثثته بينكم، وجراباً لو ذكرته لقطع مني هذا الحلقوم" رواه البخاري والجراب الثاني لمح عنه أبو هريرة عندما كان يقول: أعوذ بالله أن تدركني سنة وإمرة الصبيان وقد يتبين بعد ذلك أنه يعني إمرة يزيد بن معاوية، وإذن فالأمر مرتبط بقضية أحداث سياسية معينة ستجري على هذه الأمة لأنه لو تكلم بها لقتل بسبب ما سيتركه كلامه من آثار، ثم لو كان ما عند أبي هريرة مما كلفت به الأمة لأظهره، ثم لا يصلح كلامه متكئاً لأي إنسان يدعي أن هذا الذي خص به هو من نوع من كذا وكذا مما لا يتفق مع أصل شرعي، إذ في هذه الحالة يستطيع كل مدع وكل عدو للإسلام وكل زنديق: وكل باطني أن يدعي أن ما هو فيه وما يدعو إليه هو من مثل هذا الجراب: هذا كلام ساقط لا تقوم به حجة ليس هناك في الإسلام ظاهر ينقض باطناً ولا باطن ينقض ظاهراً ومن ادعى ذلك فإنه كافر بإجماع المسلمين {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنِ وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 109] "وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها سواء" رواه ابن ماجة بحجة الأسرار صار لكل قضية رموزها، وبحجة معرفة أسرار الذات الإلهية، طرح بعضهم قضية وحدة الوجود حتى أصبح المسلم عند هؤلاء إذا لم يقل بها لا يكون عارفاً بالله، ونجد بعضهم يراوغ في هذا الشأن فإن جاءه متشرع فسرها له بشكل وإن جاءه مستسلم فسرها له بشكل آخر، ونحن لا نحاسب الناس على نياتهم ولكن نحاسبهم على أقوالهم. قال بعض الصوفية:

وما الكون في التمثال إلا كثلجة

وأنت لها الماء الذي هو نابع

فما الثلج في تمثالنا غير مائه

وغيران في حكم قضته الشرائع

ماذا يفهم الفاهم من هذين البيتين سوى أن هذا الكون هو الذات الإلهية بعينها ولكنها تكثفت فصارت كوناً، كالماء تكثف فصار ثلجاً، فالشرائع تقول إن الثلج غير الماء أي أن الكون غير المكوِّن ولكن صاحب هذا القول يقول: إن الثلج هو الماء وبالتالي الكون هو الله أو هو جزء من الذات الإلهية تكثف. وعبر بعضهم عن هذا الموضوع بالمثال التالي: إن هذا الكون بالنسبة للذات الإلهية كله كموج البحر فلا هو عين البحر وليس غيره. ونقول: إن موج البحر هو جزء من البحر. لهؤلاء نقول: أفهمونا قوله تعالى {وجعلوا له من عباده جزءاً، إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15] ما المراد بهذا؟ أليست هذه الآية واضحة في الإنكار على من جعل لله تعالى جزءاً وأن من جعل ذلك كافر بيِّن الكفر... فهل الاسرار المدعاة في التصوف نتيجتها أن نضل كما ضلت أمم سابقة؟ نعوذ بالله من ذلك.

نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية ويستشعر فيها اسم الله الصمد وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق وأن هناك مخلوقاً وأن الخالق غير المخلوق. إن التصوف هو تذوق العقيدة لا تقريرها بما يخالف النصوص والفهم الصحيح لها ولا يفوتنا ههنا أن نقول إن هناك ناساً يؤولون مثل هذا الكلام الذي ذكرناه تأويلات يتفق ظاهرها مع شرع الله، وقد سمعنا بعض شيوخنا يحمل البيتين على محمل مقبول شرعاً، أمثال هؤلاء الناس نحاسبهم على أقوالهم ونكل نياتهم إلى الله عز وجل، فإذا كانت أقوالهم في هذا الشأن كاعتقادهم فيه فنرجو لهم السلامة وإلا فنصوص الكتاب ظاهرة في الحكم عليهم... إن التصوف علم يحتاجه كل الناس ويسع كل الناس وقد يدق فهم بعض السالكين لبعض النصوص وقد يفهم بعض السالكين إلى الله من معاني النصوص ما لا يشعر به الآخرون وكل ذلك لا غبار عليه إذا لم ينقض نصاً أو يخالف نصاً إو إجماعاً، غير أنا نرى كثيراً من الكلام عند طبقات من الصوفية لا نرى له مثيلاً في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، ولا في عصر تابعي التابعين، ويخالف النصوص ويخالف الاجماع. ثم بعد ذلك يقدم التصوف للأمة على أنه هو هذا ويريد أصحابه هؤلاء من الأمة أن تسلم لهم بذلك ومن لم يسلم يا ويله من الألسنة الحداد والقلوب المنكرة... لهؤلاء نقول على رسلكم: إن الله حد حدوداً وأنزل شرائع ونصوصاً هي الفيصل بين الحق والباطل وهي وحدها الحكم والميزان وما سوى ذلك ضلال وأوهام...

على ضوء ما ذكرناه من اعتبارنا أن التصوف هذا شأنه سنعرض قضية السير إلى الله غير أننا نحب أن ننبه إلى أننا ونحن نحاول أن نفهم التصوف علماً للجميع ونرسم ملامح للطريق تسع الجميع، أن علينا أن نتأنى في الحكم... فقد نقل عن كثير من أئمة التصوف بعض المعاني وكثير منها يمكن أن يكون له وجهه الفقهي والعلمي والشرعي ومن ثم فعلينا أن نتأنى في الحكم على ما نقرؤه من كتبهم وما نسمعه من أقوالهم وما نراه فيمن حولنا، علينا أن نتأنى في الحكم ليكون حكمنا على بصيرة، فإذا اطمأننا إلى أن حكمنا على قضية ما حكم صحيح شرعاً، وأن ما حكمنا عليه أنه خطأ لا يحتمل غير ذلك، على أننا في هذه الرسالة سنضع كثيراً من الأمور في نصابها بحيث يتضح وجه الخطأ أو الصواب في كثير من الأمور ما له علاقة في التصوف وأهله ولنبدأ بالمقصود:

إن ركني السير إلى الله اللذين يستحيل سير بدونهما هما العلم والذكر فلا سير إلى الله بدون علم ولا سير إلى الله بدون ذكر، فالعلم هو الذي يوضح الطريق والذكر هو زاد الطريق وأداة الترقي قال عليه الصلاة والسلام "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً" رواه ابن ماجه وهو صحيح نحن بحاجة إلى العلم لنعرف الأوامر الإلهية، ولنعرف حكمتها فننفذ الأوامر ونحقق الحكمة، ونحن بحاجة إلى الذكر ليكون الله معنا في سيرنا إليه، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي "وأنا معه إذا ذكرني" (متفق عليه) وسترى قضية الذكر وأهميتها في السير إلى الله بشكل واضح في تفصيلات تأتي. فركنا السير إلى الله علم وذكر ويستحيل أن يكون سير إلا بذلك، غير أن السُلاّك على نوعين:

نوع غلب عليه الذكر مع أخذه حظه من العلم ونوع غلب عليه العلم مع أخذه حظه من الذكر وكل واحد منهما واصل في النهاية بإذن الله عز وجل، ولا شك أن العلم المراد منه هو العلم بالكتاب والسنة وما يحتاجه السالك في سيره قبل أي شيء آخر، وأن المراد بالذكر هو الذكر المأثور أو المندوب إليه الداخل ضمن أوامر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في باب الذكر... إن الناس بشكل عام نوعان، نوع رغبته في العلم كبيرة وقدرته على العلم موجودة ونوع قدرته على العلم محدودة وطاقته على العبادة والعمل والذكر كبيرة فهذا طريقه الإكثار من الذكر ولا بد له من العلم، ولقد قال ابن البنا السرقسطي "والقوم في هذا على فرقين، وحكمهم فيه على ضربين:

الفرقة الأولى:

"ففرقة طريقهم مبنية / على العقائد وحسن النية" وهذا يقتضي علماً وحسن توجه إلى الله.

قالوا فإن النفس كالمرآة

ينطبع الماضي بها والآتي

أي مما هو مستقر في أصل الخلقة للروح من معرفة الله والعبودية له والتسليم لأمره ماضياً وحاضراً ومستقبلاً (وإنما يعوقها أشياء) أي يعوق الروح عن أصل معرفتها أشياء هي "ترك المحاذاة أو الصداء" أي يعوقها عن معرفتها وعبوديتها إما غفلتها أو الصدأ المتراكم عليها بسبب الذنوب أو الغفلة، وإذا كان الأمر كذلك، فالعلاج هو إزالة الصدأ بحسن التوجه إلى الله عز وجل وذلك لا يتم إلا بذكر "قالوا وإن العين قد تغور" أي يذهب ماؤها والمراد بالعين هنا أصل الفطرة "وإنما يخرجها الحفير" أي يرجع الماء في العين بعد نضوبه الحفر وذلك عن طريق الذكر "وهذه طريقة الإشراق" أي هذا النوع من السير إلى الله يسمى طريق الإشراق. قال ابن عجيبة وتسمى طريقة الجلاء والتصفية لأنها مبنية على تصفية القلوب والسرائر بتخليتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل، أقول وهذا كله لا يتم إلا بعلم وذكر "كانت وتبقى ما الوجود باقي" فهي طريقة في السير إلى الله مستمرة لأن كثيرين يسهل عليهم بعد أخذ حظهم من العلم أن يستغرقوا في الذكر والعبادة.

الفرقة الثانية:

"وفرقة قالت بأن العلما

من خارج بالاكتساب أسمى"

أي أرفع وأعظم فهذه طريقة الأصل فيها العلم ولا بد من الذكر "وشرطوا العلوم في اصطلاحه" أي في اصطلاح هذا النوع من السير "إذ لا غنى للباب عن مفتاحه" فالعلم هو مفتاح الوصول إلى الله عز وجل ولكن أي نوع من العلم؟

"فليس للطامع فيه مطمع   ما لم تكن فيه علوم أربع"

فهذه العلوم مع الذكر هي شرط الوصول وقد حددها "وهي علوم الذات والصفات" أي معرفة ذات الله وصفاته وأسمائه "والفقه والحديث والحالات" أي وعلم الفقه وعلم الحديث أي والقرآن ثم علم الأحوال والمقامات والمنازلات ومخادع النفوس ومكايدها وما يجري مجرى ذلك "وهذه طريقة البرهان" أي هذا النوع من السير، سير قائم على الدليل التفصيلي في كل قضية "وهي لكل حازم يقظان" أن كلاً من الطريقتين لا بد له من علم وعمل، وأول العمل الذكر، ولكن كما قلنا من قبل. طريقةٌ: العلم فيها له المقام الأول من حيث نسبة العمل وللذكر المقام الثاني، وطريقة: الذكر فيها له المقام الأول من حيث نسبة ما يقضى فيه من الوقت، وللعلم المقام الثاني فلا بد في كل من الطريقتين من علم وعمل، ولذلك يقول ابن البنا نفسه

"إذا الطريق العلم ثم العمل      ثم هبات بعدها تؤمل" 

وإنما قيدنا الأولية في الطريقين من حيث نسبة ما يعطى لكل منهما من الوقت لأن الأولية الملطقة في كل من الطريقتين للعلم لأن العلم هو الإمام ولذلك قالوا:

"وكل من بغير علم يعمل    أعماله مردودة لا تقبل"

فالعلم هو البداية في كل شيء لكل أنواع السُلاّك إلى الله عز وجل ولذلك قال: ابن البنا: "فإن أتى القوم أخو فتون"، الفتون كما قال في مختار الصحاح هو الإفتتان، أي إذا جاء الشيوخ إنسان مفتتن بما يقطع عن الله وبما يشغل القلب عنه من ذنب وغيره "وقال يا قوم اتقبلوني" "فقبلوه صادقاً أو كاذباً" فذلك أدبهم مع الله، قال تعالى {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} [الأنعام: 55] ولذلك قال "إذ كان محتوماً عليهم واجباً" أي أن يقبلوا كل من جاءهم ثم بيّن بماذا يأمرونه ابتداءً فقال: "وحذروه من ركوب الإثم وأمروه باقتباس العلم" لاحظ قضية العلم كبداية "وأمروه بلزوم الطاعة والماء والقبلة والجماعة" "وقرروا فيه شروط التوبة وأمروه بلزوم الصحبة" "ثم أمروه بعلم ظاهرة"، لاحظ قضية العلم "حتى استقامت عنده السرائر"...إن ركني الطريق كما قلنا علم وذكر، ولا بد من تحديد لقضية العلم ومن تحديد لقضية الذكر، فكل إنسان يطالب من العلم بقدر حاله وبقدر احتياجه، وهو موضوع يختلف باختلاف الناس والبيئات واختلاف العصور، فهناك قضايا يطالب بها كل إنسان، وقضايا يطالب بها إنسان دون إنسان لم يكن الصحابي مثلاً بحاجة إلى أن يتعلم علوم اللغة العربية لأنه يفهمها ويتكلمها على السليقة، ولم يكن بحاجة إلى علم تجويد لأنه يتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كما أنزل ويؤديه كذلك، وكثير من الشبه والبدع وأنواع من الكفريات وزخارفها لا يصادفها جيل ويصادفها جيل آخر، أو لا يصادفها إنسان في مكان ويصادفها إنسان في مكان آخر، وكثير من الأمور يطالب بها جيل ولا يطالب بها جيل آخر، فمثلاً لا يطالب جيل يعيش في ظل دولة إسلامية بالعمل لإقامة دولة إسلامية ولا بالعلوم اللازمة لذلك، ولكن جيلاً فقد الدولة الإسلامية مثلاً لم يعد يعيش في قطر كلمة الله هي العليا فيه، مثل هذا الجيل بحاجة إلى أن يعرف العلوم اللازمة لإقامة فريضة الله هذه، إن قضية العلم والذكر كركنين في السير إلى الله لا بد أن تفهم فهماً صحيحاً، خاصة في عصرنا الذي غفل الناس فيه كثيراً عن فرائض وضيعوا كثيراً من طاقاتهم في الدفاع عن قضايا ليست من باب السنن، وهي إما من باب المباحات أو من باب البدع، وكل ذلك لا يستأهل أن يقف المسلم المعاصر عنده طويلاً...

إذا اتضح إلى حد ما موضوع العلم والذكر كركنين في السير إلى الله فقد آن لنا أن ندخل لب الموضوع بشكل أوسع، إن لب الموضوع في السير إلى الله هو الوصول إلى القلب السليم، ففي الحديث "إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" رواه البخاري إن صلاح القلب به صلاح النفس، وصلاح الجسد وهو صلاح للروح، إذ في هذه الحالة تكون الروح في وضعها الصحيح، وهو نقطة البداية في الاستقامة، وبهذا الصلاح يكون استعداد الإنسان للتلفي عن الله كاملاً، والقدرة على الخلاص من الفتنة متوفرة بإذن الله، ومن ثم فنقطة البداية الصحيحة لحياة إسلامية كاملة هي صلاح القلب وإصلاحه، والسير إلى الله في جوهره هو هذا السير في القلب نحو صلاحه ثم الاستمرار به في حالة الصلاح والقيام بحقوق العبودية الخالصة لله عز وجل حتى الموت، وفي هذه الدائرة أغلاط كثيرة يقع فيها السُلاّك إلى الله عز وجل ستتبين لنا شيئاً فشيئاً.