بقلم: د. رشاد لاشين

إن الرعاية الأخلاقية لأطفال المستقبل لهي أعظم أهمية، وأخطر أثرًا من الرعاية الصحية للجسد، فالجسد السليم قد يكفل للإنسان سعادة الدنيا فحسب، أما الأخلاق السليمة الصالحة فتكفل له سعادةَ الدارين الدنيا والآخرة، لذلك وجب على الزوجين أن يُوليا هذا الأمرَ عنايةً كبرى قبل الارتباط، وذلك لأهميةِ الأخلاق الصالحة لمستقبل الزوجين أولاً ثم لمستقبل الأبناء ثانيًا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ (التحريم: من الآية 6).

فالطفل جهاز تصوير رائع يلتقط كلَّ ما يدور حوله في بيئته التي ينشأ فيها، ثم ينطبع بعد ذلك سلوكه بكل ما التقط فتكون كلماته، وتصرفاته، وميوله، واهتماماته غرفًا من المعين الذي منه استقى إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر؛ فأيقظ غرائز الطفل في صغره غريزة التقليد، والمثل الأعلى عنده أبواه اللذان يشكِّلان البيئة السلوكية التي تصوغ فكره وسلوكه؛ فالحسن عنده ما صنعا، والقبيح عنده ما تركا، ثم يأتي بعد ذلك دور التوجيهات والإرشادات ونمط التصرفات التي يستقيها الطفل في تلك البيئة ويكون لها الأثر البالغ في تكوينه الإنساني؛ فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر، ومن شبَّ على شيء شاب عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" (رواه البخاري- كنز العمال 1 / 1307).

 عزيزي الشاب.. عزيزتي الشابة:

ليحرصْ كل منكما على اختيار الشريك الصالح من أول وهلة، ولا تتنازلا عن هذا الشرط مهما كانت الإغراءاتُ إن كنتما تريدان الخيرَ لأنفسِكما ولأبنائِكما ولا تتذرَّعا أو يتذرَّع أحدكما بحجةِ أنه سيحاول إصلاح أخلاق شريكه في المستقبل؛ لأن محاولة إصلاح أخلاق شخص نشأ في وسط معين، وترعرع فيه، وشبَّ عليه، وتشبع بأخلاقه وسلوكياته لسنواتٍ عديدةٍ قد تكون صرخة في وادٍ، أو نفخة في رمادٍ، أو حرثًا في الماء، أو أملاً في سراب، (إلا ما رحم ربي)،  وأمر الحياة الزوجية ومستقبل الأبناء يجب ألا يُترك للظروف، حيث محاولات الإصلاح قد تفلح، وقد تفشل، والزواج نصف الدين والأبناء رعية سيسأل عنها كل طرف يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيَّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" (رواه ابن حبان في صحيحه).

أخلاقيات الزوجة وأثرها على الطفل القادم

الأم مصنع الرجال، فهي التي تصيغ العقولَ والأفهامَ، وهي التي تبث المبادئَ والقيمَ، وهي التي يشهد لها تاريخ الأمم أنها وراء كل عظيم وخلف كل إنجاز، ومهندسة كل رسالة ناجحة، فالأم أستاذ العالم، والمرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بشمالها:

الأم مدرسة إذا أعددتها         أعددت شعبًا طيِّب الأعراق

فانظر أيَّ أم تختار لأبنائك، واخترْ أيَّ مدرسةٍ تتعلم فيها ذريتك!!.. لذلك نجد رسول الله صلى الله عله وسلم يحثنا على اختيار المرأة المتدينة فيقول: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" (رواه البخاري عن أبي هريرة / جـ 7 / ص9) وتأكيد رسول الله صلى الله عله وسلم على ذات الدين، لأنها تراقب الله تعالى، ومراقبة الله تكفل النجاح الدائم لكلِّ عملٍ وتحفظ العرض والمال، وتدفع الإنسان للقيام برسالته ودوام أداء واجبه.

والمرأة الصالحة في الغالب تكون قد تخرَّجت من بيتٍ متدين صالحٍ تربَّت في رحابِه، بل وتعلمت كيف تكون التربية الصالحة السليمة، وقد تكون شاركت في تربية أخوتها، وبالتالي تصبح مسألة الرعاية لأبنائها سلوكًا طبيعيًّا غير متكلف.

لذلك بيت القصيد في إصلاح أمتنا هو البدء بإعداد البنات وحسن تعليمهن وتربيتهن حتى يصبحن أمهاتٍ صالحاتٍ يعددن جيلاً عظيمًا ينهض بأمته من جديد والشاعر يقول:

من لي بتربية البنات فإنها  في الشرق علة ذلك الإخفاق.

لذلك يجب ألا نقتصرَ في تعليم البنات على مجالٍ من مجالات العلوم فحسب، بل مع ذلك وأهم منه أن تتعلمَ أمورَ تربيةِ الأطفال، ورعاية الصحة، وعلم النفس، وتدبير المنزل، وأن يكون ذلك منهجًا دراسيًّا يسير جنبًا إلى جنب مع أي مجال تتخصص فيه؛ وفوق كل ذلك أن تتربَّى على الدين والخلق.. ذلك إن أردنا لأمتنا أن تفلحَ ولحضارتنا أن تنهضَ من جديد..!

أخلاقيات الزوج وأثرها على الطفل القادم :

مستقبل المرأة ومستقبل أبنائها معقودٌ بحسن اختيار الزوج، فالمرأة على دين زوجها، والولد سر أبيه، والشاعر يقول:

وينشأ ناشئ الفتيان فينا             على ما كان عوَّده أبوه

لذلك يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختيار الزوج الصالح التقي صاحب الخلق الحسن فيقول: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا  تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (رواه الترمذي).

ذلك أن الزوج والأب كما أسلفنا: قائدٌ، ومربٍّ، ومعلمٌ، وصانعٌ للسلوك، وموجهٌ للدرب، ومسئولٌ عن المستقبل.. والفلاح في ذلك منوط بالأمانة والدين وحسن الخلق، وليس بالمال، ولا بالجاه، ولا بالسلطان، ولا الحسب ولا النسب، ولا غيرها من أغراض الدنيا الزائلة، وقديمًا أفلحت ابنة سيدنا شعيب وأحسنت صنعًا إذ قالت:﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (سورة القصص: 26).

التقوى تنفع الذرية:

تقوى الآباء تنفع الذرية في حياتهم، وكذلك بعد مماتهم ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمْا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمْا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ (الكهف: من الآية 83).

عقوق الآباء للأبناء:

جاء رجلٌ إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه؛ فأحضر سيدنا عمر الولد وأنَّبَه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال سيدنا عمر: أن ينتقيَ أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن) قال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئًا من ذلك، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسيٍّ، وقد سماني جعلاً (أي خنفساء) ولم يعلمني من الكتاب حرفًا واحدًا، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليَّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك!!