صار واضحًا وثابتًا للكافة الآن أن أي محاولة للتعامل مع الحالة المصرية بالعقل هي من ضروب الجنون، ذلك إن إخضاع ما يصدر عن السلطة الحاكمة وأذرعها وأرجلها لميزان المنطق هو من أشكال العبث بلا نتيجة.

يحرص النظام وتوابعه، طوال الوقت، على تأكيد أنهم خارج العصر، غير أنهم لا يكتفون بذلك، بل يطلبون من العالم الالتحاق بهم في تلك المساحة الهائلة من العدم.

لم تكن الدماء على قضبان القطارات قد جفّت بعد، ولم تكن الأشلاء تحت أنقاض العمارة المنهارة قد جمعت، ولم تكن أعداد الضحايا هنا وهناك قد أحصيت، فيما كانت الفضائيات التابعة لأجهزة النظام تقيم الأفراح في اللحظة ذاتها بتعويم السفينة الشاحطة في قناة السويس، فتنقل جميع المواقع الصحافية عن برنامج تلفزيوني، غاطس وشاحط حتى أذنيه في لجة الدجل والشعوذة السياسية، ما يلي:

"عرضت الصفحة الرسمية لبرنامج "•••" المذاع عبر فضائية "•••"، ويقدّمه الإعلامي "•••"مقطع فيديو يرصد فرحة القاطرات مع بدء حلحلة السفينة الجانحة بقناة السويس.

مقطع الفيديو المشار إليه ليس فيه إلا أصوات زاعقة صادرة من السفن والمراكب المكدّسة منذ أيام في مدخل قناة السويس، يشكو قائدوها ملل الانتظار الطويل، منذ أغلقت القناة أمام الملاحة. من يقرأ الخبر بهذه الصيغة ويشاهد الفيديو يتخيل أن الأزمة قد انفرجت، وأن السفن تمرح بخفّة الغزال في طول القناة وعرضها، غير أن الواقع يصدمك على لسان الجنرال رئيس هيئة القناة حين يعلن أن المحاولات جارية، وكل السيناريوهات قائمة، من دون تحريك الجانحة، لتكتشف مجدّدًا أن العقل البائس الذي لم يخجل من التصريح إن حفر تفريعة لقناة السويس، في العام 2014، كان من أجل رفع معنويات المصريين، هذا العقل لا يزال مسيطرًا على مفردات الحياة المصرية، محافظًا على بؤسه ومخاصمته المنطق والتفكير السليم.

هو العقل ذاته، الدجّال والشرير، الذي لا ينتج إلا مساخر وقت الجد، ويطلق نكاتًا بذيئة في سرادقات العزاء، من نوعية ما قدّمته المذيعة ذات الوجه المخابراتي الصارم، لميس الحديدي، في تغطيتها فاجعة تصادم القطارين في سوهاج بصعيد مصر، حين تركت كل شيء في الكارثة، واختارت موضوعًا وحيدًا تطلّ به على المكلومين والمفجوعين، فتنهال على نجل السيدة الناجية من المأساة نقدًا وتعنيفًا وتجريحًا وتشريحًا، لأنه كان قد تعارك مع والدته قبل الكارثة، وهذا بالطبع سبب كافٍ جدًا لكي يحل بديلًا لوزير النقل (العسكري) ورئيس هيئة السكك الحديدية في تلقي اللعنات والانتقادات والمطالبات بالمحاكمة.

تحشد المذيعة كل القوات والأدوات في حنجرتها، ثم تصرخ في الناس "عايزة أقوله إزاي تتخانق مع أمك كده؟ ده ربنا مش هيرضى عليك ولا حياتك هتتصلح". .. شيء من ذلك تجده مع الشاب الذي حاول، بهاتفه الجوال، أن يستنقذ ضحايا الكارثة لحظة وقوعها، من خلال البث الحي على "فيسبوك"، مناديًا على المواطنين أن يهرعوا لنجدة الجرحى، فكان متهمًا على الفور بتكدير الأمن وتعكير السلام الاجتماعي وخائنًا وعميلًا ومتآمرًا على الوطن .. ثم يتم استدعاء والده لمهاجمته والرد عليه، دفاعًا عن الوطن الذي لا يعترف بحقوق الاثنين أصلًا.

هذا الجنون المتدحرج منذ العام 2013 يعبر عن ذاته بأساليب ومفردات متنوعة، فيتخذ شكلًا أكاديميًا مصطنعًا مع معتز بالله عبد الفتاح، مدرس العلوم السياسية، فيهرف بما عرف على مستوى الكوكب بنظرية الخرم، الخاصة بمعالجة أزمة سد النهضة عن طريق إحداث خرم فيه بعملية مخابراتية خاطفة، أعلن تفاصيلها كاملة على الهواء مباشرة.

ويتخذ الجنون شكلًا رسميًا مع وزيرة الصحة، وهي توجه الاتهام في كارثة القطار إلى "أهل الشر" الذين يشكّكون في الأرقام الرسمية المعلنة عن عدد القتلى والجرحى، وهي الأرقام التي تقف عارية أمام شهادات الناجين وذوي الضحايا. ثم يعبر عن نفسه في شكل انفصال تام عن الواقع على لسان وزير النقل، حين يعتبر استقالة المسؤول الفاشل الذي يؤدّي فشله إلى كوارث، يعتبرها هروبًا وخيانة للوطن، فيقول للمذيع اللدن، زوج المذيعة الحديدية، "كل وزير لما يحصل عنده حادثة هيقدم استقالته!، الدول لا تدار بالمنظر ده .. أنا بعمل كل ما عندي وميقدرش على القدرة إلا ربنا". وتابع: "أنا تحت أمر بلدي ورئيس جمهوريتي اللي وثق فيا .. وهفضل أقاتل وأطور واستكمل الخطط اللي بدأناها علشان أخدم بلدي .. لو الناس شايفة أني متكاسل أنا هطلع وأقول أنا مستقيل وشوفوا حد أفضل مني .. لكن لو هربت أبقى خاين".

كل ما سبق من مشاهد يؤكّد، بما لا يحتمل الشك، أن أهل السلطة قد عزلوا أنفسهم في ساحة شاسعة، يمارسون فيها جنون القرارات والسياسات والتصريحات، ويطلّون من أسوارها العالية على الناس خارجها، فيتهمون الجميع بالجنون، ثم يواصلون تعلية أسوار ساحة العقلاء التي يتسللون منها، من وقت إلى آخر، لكي يقودوا قطارات وبواخر بأقصى سرعة إلى الجحيم، ثم يعودون سريعًا إلى مقارّهم.

المدهش أن العالم كله يتابع ويتفرج ويضحك ويبكي على ذلك الخرم المخيف في عقل مصر، بينما أصحاب الخرم ينظرون إلى الكوكب كله على أنه في قبضة المجانين، وهم العقلاء.

نقلا عن "العربي الجديد"