شهد الخامس والعشرين من رمضان الماضي اقتحاما للآلاف من جنود الكيان الصهيوني لباحات المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين، في ظل غضب الشارع الفلسطيني من حكم محكمة صهيونية بإخلاء عائلات من منازلها بحي الشيخ جراح بالقدس الشريف لصالح مستوطنين صهاينة، وأسفر هذا الاعتداء عن إصابة أكثر من 205 فلسطينيين في المسجد الأقصى وباب العمود والشيخ جراح. ثم شهد صباح يوم 28 رمضان اقتحاما للمسجد الأقصى أسفر عن إصابة أكثر من 331 فلسطينيا، بينهم سبع حالات خطرة.

وقد قامت قوات الاحتلال الصهيوني بهذا الاعتداء لتهيئة البيئة للمتطرفين من المستوطنين للقيام بمسيرة توحيد شطري القدس، وفي ظل تمادي الكيان الصهيوني في بطشه وغيه وعجز النظام الرسمي العربي عن صده، بل والتواطؤ معه من بعضهم، نشرت كتائب القسام في الرابعة وخمس وأربعين دقيقة بيانا تقول فيه إنّ قيادة المقاومة تُمهل إسرائيل حتى السادسة مساءً لسحب جنودها من الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين. ولكن لم يكترث الاحتلال بتلك التحذيرات فأُطلقت رشقة صاروخية من قطاع غزة باتجاه المستوطنات الإسرائيليّة، فهرع المستوطنون يهربون ولم تكتمل سيرتهم. وبعدها فتح الكيان الصهيوني جبهة حرب مع غزة، فأوغل في قتل النفوس وهدم البيوت على أصحابها، فلم يراع شيخا كبيرا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة. وقد قابلت المقاومة ذلك بتطور نوعي في إطلاق الصواريخ التي غطت سماء الكيان الصهيوني وألحقت به أضرارا بشرية ومادية.

ورغم الأضرار الاقتصادية والبشرية التي أصابت قطاع غزة، من قتل النفوس وتدمير المزارع وهدم عشرات البيوت وموت ساكنيها تحت أنقاضها أو تركهم في العراء كعامل ضغط اقتصادي على حكومة حماس في غزة، حتى قدرت الخسائر المادية -وفق مكتب الإعلام الحكومي في غزة - خلال الأيام الثمانية الأولى للحرب أكثر من 344 مليون دولار، إلا أن المتضررين لم يزدهم هذا الوضع إلا ثباتا وتضحية فداء للأقصى.

كما أنه رغم تلك الخسائر، فإن خسائر الصهاينة فاقت التوقعات. فقد تسببت صواريخ المقاومة بشلل تام في الكيان، فتم تعليق رحلات الطيران والمواصلات وغلق المدارس وإيقاف العمل بحقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط، وانخفضت العملة (الشيكل) بنحو 1.5 في المئة، وتضرر أكثر من 3000 مبنى وشقة وسيارة. وزادت تكلفة فاتورة الحرب من عجز الموازنة، حتى أن الخسائر الاقتصادية خلال ثلاثة أيام للقطاع الصناعي بلغت 160 مليون دولار، وفق تصريح رئيس الاتحاد المصنعين الصهاينة، كما بلغت تكلفة اعتراض الصاروخ الواحد للمقاومة 150 ألف دولار، لصاروخ قيمته نحو 300 دولار. وقياسا على الحروب السابقة، ففي تقديري لن تقل التكلفة اليومية للاقتصاد الصهيوني في هذه الحرب عن 300 مليون دولار.

ولعل أهم نتيجة في هذه الحرب هي نهاية صفقة القرن، وإحياء الأمة من موات بعد أن لجأ صهاينة العرب للتطبيع، بل ودعم الاقتصاد الصهيوني علانية، وصمت بعضهم صمت القبور عما يحدث من اعتداء غاشم على غزة.

إن هذه الحرب الضروس على غزة تبرز أهمية مساندة الشعوب الإسلامية لأهلنا في غزة، في ظل غياب النظام الرسمي العربي ما بين متآمر أو عاجز، فلا أقل من مد يد العون لهم لتلبية حاجاتهم الصحية التي باتت ملحة، وغيرها من الحاجات المعيشية الأساسية.

وكذلك تبدو أهمية المقاطعة الاقتصادية لكل سلعة وخدمة صهيونية، وكل سلعة وخدمة من كل دولة ساندت الكيان الصهيوني، فنحن في عالم يحركه المال، وتخضع السياسة فيه والسياسيين لضغوط المال ورجال الأعمال.

والمقاطعة ليست بدعا فقد عرفتها الدول والمجتمعات قديما وحديثا، وليس ببعيد عنا استخدام الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني نفسه لها بصورة مقلوبة، ظلما وعدوانا، ولكننا نستخدمها عدلا وإحسانا حتى لا تتحول أموالنا إلى رصاصات تستقر في جسد إخواننا في فلسطين.

والمقاطعة هي أضعف الإيمان وثبتت جدواها إذا تمت بصورة منظمة ومستديمة، وهي من أدوات النكاية بالكيان الصهيوني، ومن عوامل الضغط على حلفاء الكيان الصهيوني، كما أنها ترسخ قيمة الانتماء الوطني والعروبي والإسلامي.

وختاما، فإن ما يدور على أرض فلسطين رغم ما فيه من تضحيات إلا أنه يحمل معه المبشرات، فجيوش الدول العربية التي تقهقرت أمام هذا الكيان الغاصب حتى تحولت لحمايته؛ تمكنت المقاومة من فضحها وتعريتها، فضلا عن تعرية جيش الصهاينة وحربه النفسية وسقوط مقولته المغرورة بأنه "جيش لا يقهر".

فما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، في ظل فقدان الأمن وظهور بوادر التفكك الداخلي وضربات المقاومة، فضلا عن التخلي الخارجي التدريجي عن الكيان الصهيوني. فهذا الكيان دولة وظيفية من صنع الاستعمار قائمة على عقلية الجيتو، ولن يستمر دعمه لها، وأفول نجمه وحتمية زواله تعيش في جيناته.

وقد أكدت هذا العديد من التقارير الدولية الأمريكية والروسية، وكذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري، وأفراهام بورج رئيس الكنيست السابق، والمؤرخ الصهيوني الشهير بيني موريس، إضافة إلى الاستشفاف القرآني لتلك النهاية التي أشار إليها الشيخ أحمد ياسين رحمه الله.