وجد الأنصار فى أنفسهم، حين وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين على من أسلم حديثًا، ولم يعط للأنصار منها شيئا، وجدوا من ذلك فى أنفسهم، وهم الذين آووا ونصروا، آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جاءهم طريدًا، لا يأمن على نفسه، ولا على أصحابه فى مكة، وآووا إخوانهم المهاجرين وأحبوهم وآثروهم على أنفسهم وأهليهم بشهادة القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين جاءهم عَائِلاً فَوَاسَوه بكل ما فى أيديهم، حين جاءهم خاَئِفًا فَأَمَّنوه، وَمَخذُولًا فَنَصَرْوه، وَمُكَذَّبًا فَصَدَّقوه) صلى الله عليه وسلم، ورضى الله عنهم وأرضاهم.

لكنهم وجدوا فى أنفسهم، وأصابهم الحزن وربما شئ من الغضب، أو عدم الارتياح، أو عدم الفهم، أو غياب القناعة، وجدوا فى أنفسهم لما فعله صلى الله وسلم، حين أعطى غيرهم، ولم يعطهم، بل أغدق على غيرهم العطاء، وهم الفقراء، أعطى من كان عدوًا لله ورسوله، أعطى من قاتله وقتل من المؤمنين الكثير فى الكثير من المواقف والأحداث، أعطى من أنفق ماله وحياته صادًا عن دين الله! أعطاهم الرسول الكريم عطاء من لا يخشى الفقر، ولم يعط الأنصار شيئًا، وهم من هم! فوجدوا فى أنفسهم، وتلك حركة النفس البشرية الطبيعية، إنه الإحساس الذى لا يرد، والفطرة التى خلق الله الناس عليها، ورد الفعل الذى لا يجوز لأحد أن يخجل منه، ولا يتعالى عليه، وهكذا فعل الرجال، هكذا فعل الأنصار.

نعم إنها الرجولة التى تغيب عن كثير من المواقف، حين يجد الرجال فى نفوسهم فإنهم لا يخجلون، ولا يدارون، ولا يكذبون، ولا يتملقون، بل يتحدثون بما فى نفوسهم، فى وضوح الرجال، وصراحة الرجال، وأمانة الرجال، وأداء الرجال، فلا غيبة، ولا نميمة، ولا جيوب، ولا فتنة، بل يتحدثون عبر قنواتهم الشرعية، يذهبون إلى سعد بن عبادة، نقيبهم وسيدهم وولى أمرهم الأدنى، ليحمل صوتهم وشكواهم إلى القيادة العليا- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إنها الدروس الخالدة المجيدة، من رجال الدعوة الأبرار، من الأنصار، لكل جنود هذا الدين، فى كل موقع، فى كل حدث، فى كل زمان، إنها دعوة الرجال الصادقين، الصادقين مع أنفسهم، الصادقين مع ربهم، الصادقين مع قياداتهم، إنها دعوة الرجال الذين لا يخشون أن يكشفوا عما فى نفوسهم، لا يتجملون أمام الكبار وأصحاب القرار، ولا يزينون أنفسهم بغير ما فيها، بل يلقون أمام إخوانهم وقيادتهم كل ما فى دواخلهم، فإن كان خيرًا فالحمد لله، وإن كان غير ذلك فإلى العلاج والإصلاح.

إنها الجندية الملتزمة، حتى فى أصعب اللحظات، لحظات الغضب والاستفزاز، ليس للجندى إلا الالتزام والانضباط، ليس للجندى إلا طريقه الصحيح ليعبر عن غضبه، ويشكو مما يشاء، ويشكو من يشاء، إنه الالتزام الذى يحفظ للدعوة قوتها وكيانها، ويمكنها من تحقيق غاياتها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، إنه التزام الجندى الذى لا يستفزه شئ، الجندى الحريص على الدعوة حرص القادة والرموز، الجندى الذى لا يهدم دعوته بيديه مهما كان، بل يحافظ على نظامها ومؤسساتها، ويعلى من شان دعوته لا سيما وقت الشدة والمحنة، الجندى الذى هو الحل فى كل مشكلة، ومعاذ الله أن يكون الأنصار مشكلة أو أزمة مهما كان ويكون من أحداث، معاذ الله أن يكون الأنصار سببًا لضعف أو فتنة، أو يكونوا خصمًا من هذه الدعوة الكريمة، أو عبئًا عليها، إنهم الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار}.