يروى أبو هريرة من حديث النبى- صلى الله عليه وسلم- {المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ ...} وقد أخرجه أبو داود والبزار والطبرانى، والبخاري في الأدب المفرد، واللفظ له.

كثيرة جدًا، تلك الحقائق الكبرى التى تضمنها الكتاب والسنة، منها أحكام وعقائد، ومنها السنن والقوانين، ومنها الحكم والأصول ومنها القواعد العامة، أو ما كان من باب تعليم الناس ما يصلحهم، وما يحتاجون إليه فى حياتهم، على مختلف محاور هذه الحياة، أو باعتبارهم كائنات اجتماعية بالفطرة، لا يعيشون فرادى منعزلين، وكثيرًا ما ننظر إلى حقائق القرآن والسنة على غير ما تستحق من الاهتمام والتفعيل، ومن النشر والتعليم، ومن الاحترام والتقدير. ننظر إلى حقائق القرآن والسنة نظرة ضيقة، كأنها مواعظ للدار الآخرة، فقط نعمل بها لاكتساب عدد من الحسنات، أو ربما ينظر إلها البعض على أنها بمثابة نصائح من صديق، فله أن يجربها، أو حتى يختار منها أو- لا قدر الله- يختار عليها غيرها! وما هكذا أُمرنا! فقد ورد فى كتاب الله: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا}. وفى ذلك الكفاية والقناعة بمصدرية السنة فى التشريع، ووجوب الاجتهاد فى التزام كل ما أمر به رسولنا العظيم، ووجوب الانتهاء كليةً عن كل ما نهانا- صلى الله عليه وسلم.

وفى هذه الجملة النبوية الشريفة -(المؤمن مرآة أخيه) نجد الحقيقة الإيمانية الممتزجة بالحقيقة الاجتماعية النفسية، فى أدب نبوى رفيع، تجد جملةً قصيرةً قصيرةً، تحوى الحِكَم الغزيرة الغزيرة، لا يستطيع ذلك إلا من كان مؤيدًا بالوحى، فإذا كلامه دليل نبوته، وإذا الحكم الغراء تفيض من كل كلماته وأفعاله، بل حتى من سكوته ونظراته، صلى الله عليه وسلم.

فالمؤمنون حسب هذا الحديث واحد من رجلين، رجل ينظر فى المرآة، والثانى هو المرآة نفسها، والمؤمنون حسب هذا الحديث الشريف يتبادلون هذين الدورين، يتبادلونهما فيما بينهم فى تعاقب طبيعى، وفى سلاسة فطرية، لا يحتاج الأمر من أحدهما أو كليهما سوى استثمار تلك النعمة العظمى وهذا الفيض الربانى -فيض الأخوة- لينهل أحدهما بما يجود عليه أخوه، وليسعد بما يحتاجه من أخيه، من مخلص الأفكار، وعميق النظرات، ونافع النصائح. المؤمن الناظر فى المرآة -أو حين ينظر فى المرآة- هو الفقير إلى النصيحة والتقويم، والمؤمن المرآة، أو حين يكون كذلك- هو الناصح الأمين، المحب الشفيق. وعلى كلٍ منهما واجباتٌ مختلفةٌ، ولكلٍ منهما حقوقٌ مختلفةٌ كذلك.

فالمؤمن الناظر فى المرآة هو تمامًا ككل أحد يتوجه إلى المرآة، إن له هدفًا من ذلك، إنه يريد أن يرى شيئًا لا يستطيع رؤيته بالنظر العادى، شيئًا ما- ليس فى دائرة بصره الطبيعى، إنه يحتاج أن يرى ما لا تراه عينه فى الواقع، ومن زاوية رؤيته الشخصية، لذلك فهو يلجأ إلى المرآة، فالمرآة تكشف له زوايا مختلفةً للرؤية، وتبين له ما خفى عنه، وتظهر له من الجوانب ما لا يستطيع إدراكه بدونها، تلك حقيقة عمل المرآة، وتلك أهميتها.

ولكن الناظر فى المرآة على الجانب الآخر لا يستطيع أن ينكر ما يراه فيها، وليس له أن يكابر فيما تبينه له، فليس من المعقول أن نتهم المرايا أو نكذبها، وهذا بالتحديد ما يجب على المؤمن حينما يكون فى هذا الموقف، عليه أن يتقبل النصيحة من إخوانه، عليه أن يثق بما يخبرونه، بل يقدم رأيهم فى ذلك على رأيه، يصوب قولهم، ويخطِّئ قوله، يقدم رؤيتهم، ويؤخر رؤيته، فإن لم يفعل، فقد خالف توجيه الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم.

وليعلم أن طبيعة المرآة أن تظهر له فى بعض الأحيان ما لم يتعمد أن يراه، وما لم يقصد اختباره، وكذلك أخوك، فإن لأخيك حق النصح وإن لم تطلبه، له أن يهديك عيوبًا لم تسأله عنها، وربما لم تتوقعها، هكذا المرآة تعمل ذاتيًا، ودونما توجيه، كلما مررت عليها أظهرت لك ما تستطيع أن تكشفه لك، لا تنتظر المرآة إذنا من أحد، فقد خلقها الله لهذا، وهكذا خلق الله المؤمن ناصحًا أمينًا فى كل ما يعلم، ولا لوم عليه ولا حرج، ولا يقبل منه غير هذا. بل المؤمن يقبل النصح، ويسرع إلى الله، بإصلاح العيب، ويبادر بالتوبة والاستغفار، يرجو الخلاص والفوز المبين. 

والمرآة بطبيعتها لا تكذب ولا تغش، لا تحابى أحدًا، ولا يختلف حكمها لأى سبب، وهذا ما يجب أن يكون عليه الناصح، أن يكون كالمرآة تعرض ما أمامها، يتحلى بالأمانة والموضوعية، يتنزه عن كل غرض، ولا يخلط النصيحة برأيه أو هواه، لا يُقدِّم على نصيحة أخيه وإرادة الخير له إلا حسن أدائها وجميل وسيلتها والإخلاص فيها. الناصح مؤتمن على أخيه، يجتهد فى نصحه، ولا يخفى عنه شيئًا- كالمرآة تمامًا- 

المؤمن المرآة يحرص على نقائه الذاتى وسطوعه، ويجب أن يشرق على جنباته نور الوحى بالعلم النافع الكافى، يعمل من خلال هذا النور المبين، وينصح إخوانه بمقتضاه، وإلا فإن المرايا لا تعمل فى الظلام. المؤمن المرآة شرط لازم لصلاح الفرد والمجتمع، وبدونه تنهار القيم، وتفسد الأعمال، وتتكاثر الشرور، وذلك حين يخبو ضوء النصيحة، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ () كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}

والمؤمنون حين يهتدون، حين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، حين يطيعون الله ورسوله، يتحقق فوزهم وفلاحهم فى الدنيا والآخرة، وحين يعملون بمثل هذا الحديث تحديدًا- إذا كل فرد منهم مرآة للآخر ينظر فيها عند الحاجة، ويلجأ إلي أخيه حيثما يشاء، ويريه إخوانه من عيوبه ما يلاحظون، وكل واحد منهم أداة طيعة سهلة فى يد الآخر، يقوم بالدور الذى وصفه الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم- فإذا النصيحة المخلصة الفاعلة، تتدفق بسلاسة، وتتوفر بغزارة، وإذا عملية الإصلاح الفردى والجماعى عبادة لحظية لا تتوقف، ولا تتخلف فى ليل أو نهار، ولا يحرم منها أحد، ولا تغيب عن محفل، وإذا المسلمون كالأيادى الطاهرة المطهرة، يغسلون أنفسهم من كل درن، فلا يبقى فيهم عيب أو علة، ولا يحجزهم عن قيادة العالم وهدايته إلا أن يأذن الله، وذلك وعد الله الذى نتعبد بانتظاره.