-  المحنة في حياة الصحابة :

وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لجميع صنوف الإيذاء والتعذيب، ذنبهم أنهم آمنوا بالله وكفروا بالطاغوت، وجريمتهم أنهم استجابوا لنداء الفطرة، وارتفعوا فوق الحطام، وهذا وحده كان كافيا لتفجير الأحقاد في نفوس المشركين، ويفقدهم صوابهم، ويدفعهم إلى التنكيل بالمؤمنين من غير هوادة ولا لين، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر، أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع  النساء والرجال الصغار والكبار العبيد والأحرار؛ فقال ابن إسحق : ( إن المشركين عدوا على  كل من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه؛ فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين؛ فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر.

محنة بلال :

كان أمية بن خلف يخرج بلال الحبشي إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد أو تعبد اللات والعزى ...  وكان بلال رضى الله عنه وأرضاه يردد بكل تصميم، وبكل اعتزاز الهتاف الإسلامي الخالد : أحد أحد .. أحد أحد ..

محنة آل ياسر :

وكان بنو مخزوم يخرجون ( آل ياسر ) جميعاً - الأم والأب والأولاد - يعذبونهم برمضاء  مكة، ويحرقون أجسادهم بالحديد المحمي ... أما ياسر ( الأب ) فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية ( الأم ) فقد أغلظت القول لأبى جهل؛ فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .

محنة عثمان بن مظعون :

ولما رأي عثمان بن مظعون ما يواجه إخوانه الدعاة من البلاء والعذاب، وهو يغدو ويروح بأمان في جوار ( الوليد بن المغيرة ) قال : والله إن غدوي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك لنقص كبير في نفسي، فما كان منه إلا أن مشى إلى الوليد بن المغيرة  ورد عليه جواره وقال له : لقد أحببت أن لا أستجير بغير الله بعد اليوم، ثم خاطب المشركين بكلام أزعجهم، فقام إليه لبيد بن ربيعة فلطم عينه فخضبها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما أصابه فقال له أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية لقد كنت في ذمة منيعة فقال عثمان : بلى والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله وإني لفي  جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ثم أنشد :

فإن تك عيني في رضا الرب نالها               يدا ملحد غي وليس بمهتد

فقد عوض الرحمن منها ثوابه                  ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد

فإني وإن قلتم غوي مضلل            سفيه علي دين رسول محمد

أريد بذاك الله وأحق ديننا              علي الرغم من يبغي علينا ويتعدي

هكذا مضت عصبة الإيمان في عهد النبوة تشق طريقها إلى الأمام، لا تخاف دركا ولا تخشى، وتقدم في سبيل الله الشهيد تلو الشهيد .....

وتمضي الأيام كالحة كعتمة الليل ...وتقبل غيرها بمزيد من المحن والبلاء ..ومواكب الحق تتتابع زحفها العتيد علي درب الخلود ...تحرر أصحابها من عبوديةالدنيا وشهواتها ...فأصبحوا لا يحسون طعم السعادة بغير طاعة الله ... ولا يرون الجهاد إلا طريقاً إلى الشهادة وبابا إلى جنة الله والفوز برضاه ...{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عن ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين }.

نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة :

لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ورصعوا جيد الإنسانية بأكاليل الغار والفخار، ويكفي أن نختار منهم (خبيب بن عدي )لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء  ...

اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى (عضل والقارة )ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه (لحجر بن أبي هارب التميمي ) ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى .

وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى (التنعيم ) ليصلبوه ...فقال لهم إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا .قالوا :دونك فاركع ...فركع ركعتين أتمهما وأحسنها، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من الموت لا ستكثرت من الصلاة ....

وعندما رفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخل سبيلك فقال: لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام، وإن لي ما في الأرض جميعاً.

-ارجع يا خبيب.... 

-لا أرجع أبدا ....

-أما واللات لئن لم تفعل لنقتلنك ...                              

-إن قتلي في الله لقليل

وجعلوا وجهه لغير القبلة ..

فقال: أما صرفكم وجهي عن القبلة فإن الله يقول :{فأينما تولوا فثم وجه الله }ثم قال (اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو اللهم، إنه ليس معنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فبلغه أنت السلام )...وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة، ثم قال :(هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام، واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين بأيديهم الرماح وقالوا : هذا الذي قتل آباءكم في بدر . فقال خبيب: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فأبلغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وهنا ألقى معاوية بن أبي سفيان - وكان بين المشركين -نفسه إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، وهرب حكيم بن حزام، واختفي جبير بن مطعم .....

عندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة، وقال :الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين، ثم استدار إلى القوم وأنشد أبياته الخالدة :

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا                 قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم                    وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي                  وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي              فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطعمي

وقد خيروني الكفر والموت دونه        وقد ذرفت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت إني ميت                   ولكن حذاري جحم نار ملفع  

وذلك في ذات الإله وإن يشأ                     يبارك على أوصال شلو ممزع

فلست بالي حين أقتل مسلماً            على أي جنب كان في الله مصرعي

واستمر أعداء الله يمزقون جسد (خبيب ) برماحهم، وهو لا يفتر يردد (لا إله إلا الله محمد رسول الله ) حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى تشكو إلى الله ظلم الظالمين .

منقول بتصرف من كتاب -مشكلات الدعوة والداعية للأستاذ فتحي يكن – رحمه الله.