ننقل بتصرف كلام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في الحديث عن أولويات الحركة الإسلامية  فيقول:

الحركة الإسلامية والمغتربون

وهناك فئة أخرى خارج العالم الإسلامي غير الأقليات، وهم المغتربون الذين وفدوا من داخل الأقطار الإسلامية إلى بلاد الغرب في أوروبا والأمريكتين، وفي أستراليا، وفي الشرق الأقصى.

لماذا الاهتمام بالمغتربين؟
وهؤلاء لم يعودوا فئة قليلة، بل غدوا يُعَدون بالملايين وخصوصا في فرنسا، لوجود أبناء شَمال إفريقيا، وإنجلترا، لوجود أبناء الهند وباكستان وغيرهم، وألمانيا، لوجود أبناء تركيا، وأمريكا لوجود المسلمين المخطوفين قديما من إفريقيا، وكثافة المهاجرين هناك أيضا.

وفي سائر بلاد الغرب يوجد المغتربون الطارئون الذين سافروا للدراسة، أو للعمل، والمهاجرون الذين ينوون الإقامة والاستقرار هناك.

ورغم توصيات المؤتمرات الإسلامية المختلفة، بوجوب قصر البعثات الدراسية على الجوانب العلمية والتكنولوجية التي لا يتوافر نظير لها في بلادنا الإسلامية، لازالت بلاد الغرب تستقبل كل يوم قادمين جددا، إما على حسابهم الخاص أو على حساب دولهم. ولازال هناك من يهاجر إليها طلبا للرزق، أو طلبا للأمن والحرية.

وقد قال الله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)

وقال الشاعر:

بلاد الله واسعة فضاها    ورزق الله في الدنيا فسيح!

فقل للقاعدين على هوان   إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا

وقد كان وجود الحركة الإسلامية في ديار الغرب ـ في أول الأمر ـ من تدبير القدر الأعلى، ولم يكن من تخطيط المعركة، فقد هاجر الشباب فِرارا بدينه من الفتن الماحقة في أوطانه، طالبين للعلم، وباحثين عن الحرية، والأمان، ثم وجدوا هناك مجالا خصبا للعمل، ونشر الدعوة بين زملائهم القادمين من الشرق، مبعوثين وغير مبعوثين.

ضرورة الوجود الإسلامي في بلاد الغرب
وأعتقد أن من الضروري للإسلام في هذا العصر أن يكون له وجود في تلك المجتمعات المؤثرة على سياسة العالم.

الوجود الإسلامي ضرورة في أوروبا والأمريكتين وأستراليا من عدة أوجه:

ضرورة تبليغ رسالة الإسلام، وإسماع صوته، ودعوة غير المسلمين إليه، بالكلمة والحوار والأسوة.

وهو ضرورة لحضانة من يدخل في الإسلام ومتابعته وتنمية إيمانه، وتهيئة مناخ إسلامي يساعده على الحياة الإسلامية الصحية.

وهو ضرورة لاستقبال الوافدين و(المهاجرين) حتى يجدوا لها (أنصارا) يحبون من هاجر إليهم ويهيئون لهم جوا يتنفسون فيه الإسلام.

وهو ضرورة للدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، والأرض الإسلامية، في مواجهة القوى والتيارات المعادية والمضللة.

ولا يحسن ـ في رأيي ـ أن تكون النصرانية، وحدها هي المالكة المتصرفة في كل هذه الديار دون منازع ولا مشارك.

فإن شاركها أحد، فهو اليهودية الصهيونية المتحالفة معها علينا.

وهذا ما قلته للأخوة منذ سنين في أمريكا وكندا وأستراليا وغيرها..

ولكن هذا لا بد أن يتم هناك بتخطيط وتنظيم وفق فقه الأولويات..

فلا بد من البحث عن المكان الأفضل، والعمل الأفضل، والأسلوب الأفضل..

ولا بد أن يكون للمسلمين تجمعاتهم الخاصة في ولايات ومدن معروفة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الدينية، والتعليمية، بل والترويحية.

وأن يكون لهم علماؤهم وشيوخهم، الذين يجيبونهم إذا سألوا، ويرشدونهم إذا جهلوا ويوفقون بينهم إذا اختلفوا.

محافظة دون انغلاق، وانفتاح دون ذوبان
وقد قلت للأخوة في ديار الغربة: حاولوا أن يكون لكم مجتمعكم الصغير داخل المجتمع الكبير، وإلا ذبتم فيه كما يذوب الملح في الماء.

إن الذي يحافظ على شخصية اليهود طوال التاريخ الماضي هو مجتمعهم الصغير المتميز بأفكاره وشعائره، هو (حارة اليهود) فاعملوا على إيجاد (حارة المسلمين).

لا أدعو إلى انغلاق على الذات، وعزلة كاملة عن المجتمع، فهذا والموت سواء، ولكن المطلوب هو انفتاح دون ذوبان، هو انفتاح صاحب الدعوة الذي يريد أن يفعل ويؤثر، لا المقلد المستسلم الذي غدا كل همه أن يساير ويتأثر، ويتبع سنن القوم شبرا بشبر، وذراعا بذراع!.

إننا نشكو من مدة من نزيف العقول العربية والإسلامية، من العقول المهاجرة من النوابغ والعبقريات في مختلف التخصصات الحيوية والهامة، التي وجدت لها مكانا في ديار الاغتراب، ولم تجد لها مكانا في أوطانها.

فإذا كانت هذه حقيقة واقعة، فلا يجوز لنا بحال أن ندع هذه العقول الكبيرة تفقد ولاءها لدينها وأمتها وتراثها، ودارها، ولا مفر لنا من بذل الجهد معها حتى تكون عقولها وقلوبها مع أوطانها وشعوبها، مع أهليهم وإخوتهم وأخواتهم.

وإنما يتحقق ذلك إذا ظل ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وظلت هموم أمتهم تؤرقهم، ولم تشغلهم مصالحهم الخاصة عن قضايا أمتهم العامة.

وهذا هو واجب الحركة الإسلامية: ألا تدع هؤلاء لدوامة التيار المادي والنفعي السائد في الغرب، تبتلعهم، وأن يذكروا دائما بأصلهم الذي يحنون دائما إليه.

وأعتقد أن المنظمات الطلابية الإسلامية قد قامت بدور يذكر فيشكر في هذا الجانب طوال العقود الثلاثة الماضية، بعد أن كان اليساريون، والقوميون العلمانيون هم الذين يقودونها ويسيطرون عليها.

ولا يستطيع منصف أن ينسى فضل اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا، وما قام به من جهود، وما فتحه من فروع، وما نظمه من مؤتمرات، وما انبثق عنه من مؤسسات مثل رابطة علماء الاجتماع الإسلاميين، وجمعية العلماء والمهندسين المسلمين، والجمعية الطبية الإسلامية، وغيرها.. وهي التي تمثلت في الاتحاد الإسلامي في أمريكا الشمالية (إسنا). والآن تتجه النية إلى توطين الحركة في أمريكا، لتأخذ مكانها الطبيعي في عالم يقوم على الحرية والتعددية.