وائل قنديل

فور إطلاق صافرة نهاية الفضيحة الكروية للمنتخب المصري أمام إثيوبيا في البطولة الأفريقية، استلّ الإعلام المصري السكاكين والسواطير والسيوف والخناجر والحناجر وانهال على المدير الفني للمنتخب، يسلخه قبل الذبح، ويقطّع أوصاله قبل الوصول إلى المسلخ.

كان الكلام كله عن القائد الضعيف، الذي بلا خبرة، والذي لم يخُض معركة حقيقية في تاريخه كله، ولم يكسب حربًا، أو حتى يشارك فيها، وفي المجمل هو يرتدي ثوبًا واسعًا عليه، ويجلس فوق مقعد أكبر منه.

كان كلّ الكلام عن كرة القدم يقود من دون أيّ جهد إلى السياسة، ويحيل من قائد الفرقة الكروية إلى جنرال الحكم، وخصوصًا أنّ الخصم في الحالتين واحد: إثيوبيا التي سجّلت مرتين في مرمى الفريق المصري، بالطريقة ذاتها التي أحرزت الملء مرّتين في سد النهضة. في الحالة الأولى، فرضت على مصر هزيمة مذلّة في لعبة الكرة، وفي الحالة الثانية جرّعتها هزيمة منكرة في لعبة السياسة.

انتبه حاملو أدوات الذبح بسرعة إلى أنّ ما يسري على المدرب إيهاب جلال، يصلُح للتعاطي مع الجنرال ياسر جلال، الشهير بعبد الفتاح السيسي، وأنّ كل كلمةٍ وكل تصريح ينال من قائد فريق الكرة، فإنه بالضرورة ينطبق على قائد النظام السياسي، وأن ما يقع في ملعب الكرة هو نفسُه ما سبق وقوعه في مياه النيل، ومن ثم وجد هؤلاء أنفسَهم في ورطة حقيقية، على الرغم من أنه شتّان بين قائد كروي مستجدّ على الصعيد الدولي، حاول وسعى لكنه انهزم، وقائد سلطة تنازل، وفرّط في حق تاريخي للبلد، وباع الفوز للمنافس الإثيوبي، وانهزم له عامدًا متعمّدًا، كي يضمن بقاءه في السلطة ويرفع الحظر المفروض عليه على مستوى القارّة بعد أن صنّف الاتحاد الأفريقي طريقة وصوله إلى حكم مصر بأنها جريمة ضد قيم الديمقراطية والنزاهة السياسية، وبعبارة واحدة: انقلاب عسكري اقتضى تجميد عضوية مصر في الاتحاد.

فور الإحساس بهذه الورطة، أو بالأحرى فور أن حمَّر المُمسك بريموت الإعلام عينه، تغيّر اتجاه الريح وتبدّل الكلام من صبّ اللعنات على إيهاب جلال، إلى الدفاع عنه وتبرئته من فضيحة إثيوبيا، لأنه جاء على منظومةٍ فاسدةٍ واستلم المنتخب خرابة "شبه منتخب" وليس معه لاعبون بقيمة ميسّي ورونالدو وصلاح ومانيه.

تمامًا مثلما استلم الجنرال ياسر جلال البلد طابونة وخرابة ينخر فيها الفساد منذ ستة عقود، فتحوّلت إلى "شبه دولة"، وجد الجنرال المغلوب على أمره نفسه حاكمًا عليها، بالمصادفة البحتة، وأنه مكلّف من السماء بالمسؤولية عن أكثر من مائة مليون مواطن، وليس معه تريليون دولار لكي يحقّق لهم السعادة الموعودة، ويحيل شبه الدولة إلى دولة قوية، والخرابة إلى واحة للعمران.

إذن لنصبر على الكابتن إيهاب جلال في قيادة المنتخب، كما لابد وحتمًا، أن نصبر على الجنرال ياسر جلال، ولا نعارضه أو ننتقده أو حتى نحاسبه أو نسأله عن النتائج، لأنه هو الحل المستقبلي الوحيد، وليس المشكلة الموروثة منذ عقود طويلة.

اعتقادي أنّ الكابتن إيهاب جلال مظلومٌ بهذه المقارنة، وأظنّ أنه غير راغبٍ في الاستمرار في حمل هذه المهمة الثقيلة، لكنه لا يملك رفاهية الاستقالة، لأن المطلوب أن يبقى في موقعه، لأن رحيله سيستدعي، بالضرورة، المقارنة مرّة أخرى بين فشلين، أحدهما كروي، جماعي، والثاني سياسي، فردي. الأول موروثٌ ومفروضٌ جبرًا بحكم فساد المنظومة كلها، والثاني مستحدّث بقرار واختيار شخص واحد، لا يؤمن بالتفكير العلمي أو بالتخطيط أو المحاسبة أو دراسات الجدوى، ويقود منفردًا.

الكابتن إيهاب جلال لا يسجن منتقديه ولا يعذّبهم ولا يتهمهم بالخيانة ولا يصادر حرياتهم ولا يستولي على أموالهم وممتلكاتهم، ولا يسيّر مجموعاتٍ من المتسولين، يعترضون طريق المانحين وأصحاب الودائع الخليجية في بنوك البنوك، وليس عنده عماد الدين أديب يمارس الابتزاز المتسوّل عبر مقالات تنشر قبل دقائق من ظهور الكابتن/ الجنرال في مؤتمر عام، موّجهًا كلامه إلى الدول الخليجية المانحة والمودعة، مكرّرًا الرسالة ذاتها المنشورة في مقال: نريد تسييل ودائعكم إلى استثمارات بمعرفة النظام المصري، يبني بها أكثر عدد من الكباري وأعلى برج وأكبر ناطحة سحاب وأفخم قصور.

لا يتعاطى الكابتن جلال كبسولات تسوّل وابتزاز عماد أديب، كتابة في الصباح، وأمبولات تسوّل شقيقه الأصغر، المتلفزة، في المساء، ولا يردّد، طوال الوقت، أننا فقراء ومساكين، وأننا مع ذلك نلعب من أجل مصالح الأشقاء المودعين والمانحين، ونحرس مرماهم وندافع ونهاجم ونتقدّم ونتراجع من أجلهم، بتعليماتهم وتوجيهاتهم، أو أننا أقرب إليهم من مسافة السكة.

إيهاب جلال لم يقتُل من أجل المنصب، ولم يستغله لتحقيق مصالح من يدفع ومن يمنح ومن يشتري الغاز بالرخيص ثم يبيعه له بالغالي. إيهاب جلال لم يشتغل لمصلحة إثيوبيا، ولم يحقّق أحلام إسرائيل، ولم يتسوّل رضا الصغار المدججين بالثروة والنفوذ، ولم يؤّسس علاقته بهم على الانحناء والابتزاز والاستعطاف.

كل المعطيات تقول إننا، لو كنّا في ظروف طبيعية، في دولة طبيعية، فإنّ إيهاب جلال قد يستقيل، أو يقال، أو يعتزل التدريب كله، لكننا في شبه دولة دستورها الدراما، وأول مادّة فيها تقول: ياسر جلال هو المصدر الرئيسي والوحيد للتشريع، وصاحب كل السلطات، والقرارات، بما فيها قرار تحديد مصير مدرّب مصر في كرة القدم، حتى لو كان هو شخصيًا معترفًا بفشله وعدم قدرته على تحقيق أي نتائج أو إنجازات.

المصدر: العربي الجديد