تاريخ الإسلام حافل بمواقف وبطولات الائمة والدعاة الذين تعرضوا لأبشع أنواع الاضطهاد والتعذيب والتنكيل على مر العصور..

وعلى دعاة الإسلام في كل زمان ومكان أن يحذوا حذوهم، ويصبروا صبرهم، ويتابعوا طريقهم؛ ليكونوا خير خلف لخير سلف.. وإن عليهم أن يدركوا أنهم امتداد لدعوة مباركة أصحابها مجاهدون وشهداء وليس فلاسفة وخطباء؟

وسنعرض في هذه العجالة لبعض البطولات التي سجلها أئمة ودعاة في مواجهة الطغيان والطاغوت.. لنتعرف ثبات هؤلاء وصبرهم، ولنأخذ من ذلك العزاء في البأساء والضراء وحين البأس، ولتمضي كتيبة الرحمن لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله..

من هؤلاء سعيد بن المسيب رضي الله عنه.. ذلك أن عبد الملك بن مروان عندما عجز أن يجره إلى صفه وهو سيد التابعين، أمر بجلده فجلده خمسين سوطا، ثم طافوا به أسواق المدينة، ومنعوا الناس أن يجالسوه. فكان من ورعه أنه كان يحذر الناس من مجالسته حتى لا ينالهم أذى بسببه.. ولقد استمر في صلابته، واستمر جلده وتعذيبه حتى لقي وجه ربه رحمه الله.....

ومنهم سعيد بن جبير الإمام الممتحن.. لقد تعرض لنقمة الحجاج بن يوسف فاسق بني ثقيف وبطشه وجبروته، فلم تضعف له قناة، ولم تلن له عزيمة حتى قضى نحبه. وعندما أمر الحجاج بن يوسف بذبحه، قال:" أما أنا فأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي". فذبح من الوريد الى الوريد ولسانه رطب بذكر الله.. ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل فيه: " قتل الحجاج سعيد بن جبير وماعلى وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه".

ومنهم أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه.. فقد كان غير راض عن سياسة أبي جعفر المنصور.. وروي عن داود بن راشد الواسطي أنه قال: كنت شاهدا حين عذب الإمام كان يخرج في كل مرة فيضرب عشرة أسواط حتى ضرب مائة وعشرة أسواط.. فلما تتابع عليه الضرب قال خفيا" اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك" فلما أصر على موقفه دسوا له السم فقتلوه.

كان أبو حنيفة جلدا في جهاده قويا في جلاده حتى وهو يلفظ النفس الأخير.. فقد أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غضب، أو أنها اغتصبت من قبل أمير. حتى يروى أن أبا جعفر عندما بلغه ذلك قال: من يعذرني من أبي حنيفة حيا أو ميتا...

وكان منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه.. والمحنة التي تعرض لها هذا الإمام الجليل أكبر من أن يحتملها إنسان..

قال الإمام أحمد:" فلما ضجر المعتصم وطال المجلس قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك. خذوه..اخلعوا ثيابه.. اسحبوه.. فأخذت فسحبت. ثم قال: العقابين والسياط، فجيء بالعقابين والسياط..

ثم قال لأحد الجلادين: ادنه أوجع قطع الله يدك.. فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى. فلما ضرب الإمام أحمد سوطا قال: بسم الله.. فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة الا بالله.. فلما صرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق.. فلما ضرب الرابع قال: قل لن يصيبنا الا ماكتب الله لنا.. فضربه تسعين وعشرين سوطا..

وهكذا تتابع المحنة في حياة الامام أحمد حتى يلقى الله وهو على ذلك..

وكان منهم العز بن عبدالسلام سلطان العلماء.. فقد كان العز صداعا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم..

فعندما استعان إسماعيل بالصليبين وسمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح واستعان بهم على قتال أخيه نجم الدين عام 138 هـ هب العز بن عبدالسلام في وجه الخيانة وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم.. وفي خطبة له على منبر المسجد الأموي بدمشق أعلن آراءه بكل صراحة، وشدد في الإنكار على السلطان، وعلى سياسته وخيانته، ثم دعا بدعاء قال فيه: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يعز فيه أولياؤك، ويذل أعداؤك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك.

وعندما أشار عليه المسلمون بأن يغادر البلاد وينجو بنفسه من بطش السلطان قال:" لا والله لا أهرب ولا اختبئ، وإنما نحن في بداية الجهاد، ولم نعمل شيئا بعد، وقد وطنت نفسي على احتمال ما ألقى في هذه السبيل، والله لا يضيع عمل الصابرين".

محن الدعاة في العصر الحديث:

والدعوة الإسلامية والدعاة إلى الله تعرّضوا، على امتداد نصف القرن الماضي وحتى اليوم لمؤامرات شتى من أعداء الاسلام في الداخل والخارج.. لقد اغتيل منهم من اغتيل، وقتل منهم من قتل، وشرّد منهم من شرّد؛ لأنهم أصروا أن يقولوا ربنا الله.

واتهموا بالعمالة للاستعمار والذين اتهموهم هم العملاء والأجراء؟

اتهموا بالخيانة ثم جاءت الأيام لتدمغ متهميهم بالخيانة؟

كانوا حربا على الوجود الصهيوني في فلسطين من أول يوم، وقدموا الشهداء يوم كان الحكام يقدمون لأعداء الأمة الولاء؟

كانوا حربا على الاستعمار الغربي، وخاضوا معارك القتال ضد الانجليز يوم الهامات والمقامات تتمسح على أعتاب الاستعمار؟

وكانوا حربا على الشيوعية والإلحاد قبل أن تتكامل مؤامراتها على الأمة الاسلامية، وقبل ان تتسبب لها بالنكسات والنكبات؟

ففي مصر تعرضت الدعوة وأصحابها على مدار العهود السابقة لشتى أنواع البطش والتنكيل والاضطهاد.. لقد واجه جيل بأكمله ممن تخرجوا من مدرسة محمد بن عبدالله مؤامرة رهيبة لتصفيته..

استشهد حسن البنا المرشد العام للاخوان المسلمين عام 1949 على أيدي الطغمة الحاكمة وضمن مخطط وضعه الإنجليز للقضاء على الحركة الإسلامية التي هزت إمبراطوريتهم.. وذنب الإمام الشهيد أنه صفع بالحق وجوه العبيد، ودعا لإخراج الناس من عبودية الطغاة والدوران في فلك الاستعمار إلى عزة الإسلام وعبادة الله الواحد القهار.. فكان جزاؤه بضع رصاصات اخترقت جسده في وضح النهار { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}.

وفي العام 1954 سيق العالم الجليل عبدالقادر عودة إلى حبل المشنقة، كما يساق القتلة والمجرمون، لأنه لم يرضى الدنية في دينه.. وقال للطغاة لا، يوم كانت إلهامات تنحني لهم رهبا ورغبا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:" اذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها".

وفي عام 1966 حكمت محكمة الطواغيت، ظلما وعدوانا وزورا وبهتانا على المفكر الاسلامي الكبير سيد قطب، وقد لفقت عليه دولة المخابرات يومذاك اتهامات وأراجيف حملتها وسائل الإعلام بأسلوب وغد خسيس لإثارة الدهماء من الناس على الحركة الإسلامية وعلى أبنائها{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}.

وفي إيران حكمت محكمة خاصة عام 1956 على المجاهد نواب صفوى ومجموعة من مجاهدي منظمة فدائيان اسلام بالموت ثمنا لانحراف السياسة الإيرانية وارتباطها بعجلة الاستعمار الغربي.. فقد كان الشهيد وإخوانه ينددون بهذه السياسة، وينادون بانتهاج سياسة مستقلة بعيدة عن مناطق النفوذ ويدعون الى تطبيق شرع الله في أجهزة الدولة والحكم..

وفي العراق اغتالت اليد الآثمة في السبعينيات عددا كبيرا من الأئمة والدعاة، كما جرت وتجري تصفية الكثيرين في السجون والمعتقلات بل وفي بيوتهم ضمن مخطط يرمي إلى استئصال الوجود الإسلامي. ولقد كان من هؤلاء الشهداء: الشيخ عبدالعزيز البدري صاحب كتاب حكم "الإسلام في الاشتراكية".. والعلامة الشيخ عارف البصري.. والمجاهد عزالدين القباني.. والمجاهد عماد الدين تبريزي.. والشهيد هاشم عبدالسلام.. والشهيد عبدالرزاق شندالة.. والشهيد محمد البنا وغيرهم..

وفي عام 1976 قاضت روح المجاهد مروان حديد "أبو خالد" الى بارئها وهو في السجن تشكو إلى الله ظلم الظالمين، بعد أن ذاق الجسد كل صنوف العذاب والأذى وبأبشع الأساليب وأحقرها وأخسها..

وهكذا تتتابع المحن في حياة الدعوة والدعاة.. فيشقى الطغاة بقتل الدعاة، ويسعد الدعاة بلقاء الله.. فحينما تواجه الدعوة إلى الإسلام الإرهاب والسجون والمشانق وتصبح جهادا ثقيلا وتضحية.. حينئذ يجد الجد وينتهي اللهو واللعب، ويتميز الذين يفهمون الدعوة جهادا مريرا وتضحية في سبيل الله بكل نفيس، من الذين يريدونها حياة هادئة من غير بذل ولا عطاء كأنهم نسوا قول الله تعالى: { أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين. ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه لقد رأيتموه وأنتم تنظرون}. قد يخيل للبعض ممن تحملهم الدعوة ويحملونها.. وممن يتقلون مبادئها دون أن يتفاعلوا معها.. قد يخيّل اليهم أن بناء الأمة، وانطلاق المسيرة، وانتصار الاسلام يمكن أن يكون بغير ذات الشوكة، بغير معاناة أو تعب، وكأنهم نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات} رواه مسلم وأحمد والترمذي وقوله:" من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا ان سلعة الله غالية الا ان سلعة الله الجنة". رواه الحاكم والترمذي.

فالذين لم يعرفوا بعد طبيعة هذا الطريق عليهم أن يراجعوا الحساب ويعيدوا النظر، قبل أن يقع الامتحان، ويحدث ما ليس بالحسبان{ ومن الناس من يقول أمنا بالله فاذا أوذي في الله جعل فتنة الناس معذاب الله، ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين، وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين}.

إن الذين يبدأون السير في درب الإسلام كثيرون.. أما الذين يكملون الطريق فقليلون..فنسأل الله الثبات على طريق دعوته حتى نلقاه..

من كتاب " قوارب النجاة في حياة الدعاة" للأستاذ فتحي يكن -رحمه الله