خامساً : التيسير لا التعسير

ومن الصفات التي تساعد الدعاة على الإيغال بدعوتهم بين الناس معالجة الأمور باليسر والتيسير وليس بالعسر والتعسير ..

ولما كان الناس أصنافاً شتى فهم كذلك يتفاوتون في القدرة والاحتمال، فما يطيقه هذا قد لا يطيقه ذاك، وما يتناسب مع هذا قد لا يتناسب مع ذاك؛ ولذلك كانت القاعدة النبوية ((سيروا على سير أضعفكم )).

ومن أسوأ ما ابتلي به الإسلام في هذا العصر دعاة جبلوا على التعسير في كل شأن، وكأن اليسر ليس من الإسلام في شأن ..

فهم في الصلاة معسرون، وفي الوضوء معسرون، وفي اللباس معسرون، وفي بيوتهم معسرون، وفي المأكل معسرون، وفي المشرب معسرون، وفي علاقاتهم مع غيرهم معسرون، وفي البيع والشراء معسرون، وفي عمل الدعوة معسرون، وهم في كل ذلك مخالفون للنهج النبوي الصريح ..

ثم إن هؤلاء لا يتقيدون بمنطق الأولويات، ولا يفرقون في الموقف بين ما هو فرض أو واجب أو سنة وبين ما هو حرام أو مكروه وبين ما فيه نص أو اجتهاد فتراهم يكيلون للناس الاتهامات؛ فيكفرون هذا ويفسقون ذاك، وكأن الله قد نصبهم حكاماً على الأمة يقضون فيها بكل ما هو صعب وعسير فيضيقون سعة الإسلام ويحجرون مرونة الشريعة، وينفرون الناس من الدين ألا ساء ما يفعلون ...

إن هذا لا يعنى أن يترخص الداعية وأن يتساهل ويداهن في إقامة حدود الدين، وإنما أن يستفيد من مساحات المرونة واليسر التي جاء بها الدين نفسه .. فإقامة حدود الله أمر لا جدال فيه وليس هو المعني في كلامنا هنا .

ويكفي أن نذكر هنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (( أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم )).

إن القاعدة النبوية في التعامل مع الآخرين والتي يجب أن تحكم أسلوب الدعوة والداعية تبدو واضحة جلية في قوله صلى الله عليه وسلم: (( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )) .

وفيما ترويه عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه يؤكد هذه القاعدة.. قالت عائشة رضي الله عنها: (( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً .. فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى )) .

ويحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على لين الجانب وسهولة المعشر وبين ذلك عند الله فيقول: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل هين لين سهل )) .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم هذا الخلق لأصحابه ويدربهم عليه عملياً.. فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: ((بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )).

إن سماحة الداعية ولينه وسهولة معشره هي التي تفتح مغاليق القلوب، وتنفذ به إلى أعماق النفوس، يلامسها بالهداية؛ فتقبل ويدعوها إلى الخير فتستجيب ..

والخلق هذا يجب أن يغطي مساحة حياة الداعية كلها، وأن يكون ملازماً له في كل شأن من شأنه وليس في أثناء الدعوة فقط ..

ففي بيته يجب أن يكون كذلك .. وفي بيعه وشرائه يجب أن يكون كذلك .. وفي تقاضيه يجب أن يكون كذلك ..

ويقرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :

-  ((أفضل المؤمنين: رجل سمح البيع سمح الشراء، سمح القضاء، سمح الاقتضاء ))

-  (( رحم الله عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى )) .

-  (( وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (( أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا ؟ قال ولا يكتمون الله حديثاً ؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله تعالى أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

أعرف أحد الدعاة وهو من كبار العلماء طبعه العسر في كل شيء صعب التعامل مع كل الناس .. مع الزوجة في البيت ومع الأولاد .. مع الجيران مع كل الناس ولقد وصل به الأمر أن عشرات الدعاوى أقيمت عليه أو أقامها على الناس لدى المحاكم .. هذا الإنسان أوتي سَعة في العلم، ولم يؤت سَعة في النفس، ولذلك لم ينفعه علمه، ولم يتمكن من اجتذاب حتى أهل بيته إلى الإسلام واستيعابهم ..

ولقد ذهب الإسلام في دعوته للسماحة والإحسان أبعد من ذلك حتى أنه أوجب أن يكون ذلك مع الحيوان... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته )).

منقول بتصرف من كتاب "الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية " للدكتور فتحي يكن رحمه الله .