لئن رأينا أبا الدرداء رضي الله عنه بعد فـراقة حزب محمد صلى الله عليه وسلم باكياً ، فإنه سرعان ما انـقلب ضاحكاً، ليقول: ( أضحكني: مؤمل الدنيا، والموت يطلبه , وغافل، ليس بمغفول عنه , و ضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه ) .

وإنما هـو ضحك التعجـب من صورة حيوية يشاهـدها كل مراقب لحياة الناس، يرى خلالها أنماطاً من الغـفـلة تحرف شدةُ طمع تصاحبها بعضَ الناس عن رؤية مصير رهيب يتخطف غيرَهم من حولهم، وما لهم أدنى ضمان لدفعه لو جاءهم كما يجيء أولئك .

فالناس في غـَفـَلاتهم **** ورَحى المنيّة تـَطْحنُ

وهي ضحكة قد تهجم على صاحبها لأول وهـلة حين يحار في تـفسير هذه الظاهرة ، لكنها سرعان ما تتحول إلى شفـقة ورحمة تأبى إلا أن تصدم الغافل صدمة إيقاظ تخرجه عن سكونه .

رحمة حركـت أبا الدرداء برفـق فأتى إلى هـذا الذي أضحكه فنـقـر بأصبعه على كتـفه فالتـفـت ، فهمس في أذنه أن : ( ويحك كيف بك لو قد حُـفِـرَ لك أربعُ أذرع من الأرض )، وما نـدري مدى حظ ذاك المرء من التوفيق ، إن كان انخلع من غـفـلتـه أم سَدر فيها ولكنا ندري أن هـمسة أبي الدرداء ما زالت حية ، وأن ما ذرعه لم تـزده الأيام سعة وطولاً ، وأن قبل هذه الأذرع الأربعة وبعدها قصة متصلة المشاهـد ، يرويها الرواة لمن يلـقي السمع وهـو شهيد .

يــوم الـحــصـاد

مشهدها الأول : يوم الحصاد : يوم يحصد الموت الروح كما يحصد المنجل الزرع .

وليس في التشبيه مفارقة ، فإن حصاد هذه الأرواح يحوي مثـل ذلك من الفوائد ، من بين موت شهادة ظاهـر نفعه ، وموت دون ذلك يكون للغير سبب اعتبار و ادكار .

وذلك ما صوره الشاعر حين خاطبك فقال :

ما أنت إلا كزرع عند خُضرته

                بكلِ شيء من الآفات مقصودُ

فإن سَلِمتَ من الآفات أجمعها

                فأنت عند كمال الأمر محصودُ

أو قد يسمى هذا اليوم :

يوم الصراخ ، و ذاك حين يعرق الجبين ، و يتتابع الأنين ، وتكون الغرغرة ، وتبرد الأعضاء ، وتستبد السكرات ، فيفتضح الضعف ، فيعلو الصراخ .

باكيات عليك يندبن شَجوا

                خافقاتِ القلوب و الأكبادِ

يتجاوبن بالزنين ويذرفن

                دموعاً تفيض فيض المزادِ

فيأتي من يحبسْهن جانباً ، ليغسلوك على عجل .

عجلة يضجـر الغاسل معها إن تباطأ من يحمي الماء ، فينادي : ألا إن وراءنا أشغالنا فاستعجلوا !!

كما هـو الخلق القديم في الغاسلين ، منذ عصر من قال :

كأن لم أكن إذ احتث غاسلي

                و أحكم درجي في ثياب بياض

و ما هي إلا أذرع أربعة من القماش الرخيص، كتلك من الأرض السبخة ، يحملك بعدها أصحابك على الرقاب

فلا تـنس يوماً تسجَّى على

                سريرك فوق رقاب النـَفـَر

فإن كنت صالحاً : استبشرت تـلـك الساعة ، ولبثت تصيح طرباً قدّموني ، تصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال :

( إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت غير صالحة قالت لأهلها : ياويلها ! أين يذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمع الإنسان لصعق. )

ثـم يـوم الــرقـاد

و تـنتـقل القصة إلى مشهد ثان يسمى: يوم الرقاد الطويل ، يبدأ بملكين يفتـنان الميت ، ذكر خبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أوحي إليّ أنكم تـُفـتـنون في القبور قريباً من فتـنة الدجال . فأما المؤمن أو المسلم فيـقول : محمد جاءنا بالبينات ، فأجبنا وآمنا .

فيقال : نـَم صالحاً ، علمنا أنـك موقـن .

وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئـًا فـقلتـه ) .

و ذلك هو الحوار المذكور في الحديث الآخر ، أنّ : ( العبد إذا وضع في قبره و تولّى و ذهب أصحابه ، حتى أنه ليسمع قرْع نعالهم ، أتاه ملكان فأقـعداه .

فيقولان له : ما كنت تـقول في هذا الرجل ، محمد صلى الله عليه وسلم ؟

فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله .

فيقال : أنظر إلى مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعـداً من الجنة .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعاً .

و أما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يـقول الناس .

فيقال : لا دَرَيت ولا تَلَيتَ .

ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنية ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثـقـلين ).

فيستيقـظ الدود لتـلك الصيحة ، ويهجم هجومه فيستـسلم الرجل ويذعن ويأخذ يـقول كأنه يستـزيد :

ضعوا خدي على لحدي ضعوه

                و مِن عـَفـْـر التراب فوسٍّدوه

وشـُـقـوا عـنه أكــفـاناً رقـاقـاً

                وفـي الـرمْس الـبعـيد فـغيـّـبوه

فـلـو أبـصرتـمـوهُ إذا تـقـضـت

                صبـيحة ثـالثٍ : أنـكـرتـموه

وقــد مـالت نواظـرُ مـقلـتـيه

                عـلى وَجَنـاتــه ، فـرفضـتـمـوه

فهنالـك يكون السكون ، حيث تصفر الرياح على تلال هامدة واطئة ، فيصل صفيرُها إلى آذان أمهاتٍ ثكالى يخرجن ببلاهة يـقودهن الصفير إلى قبور أبنائهن ، لتسأل كل واحدة منهن ابنها :

بأي خديك تَبدّى البلى و أي عينيك إذاً سالا ؟

فيجيبهن صوت بعـيد، من حيث القبـر الأخير المنـزوي :

لم تبق غير جماجم عَرِيتْ

                بيضٌ تلوح، و أعظمُ نَخِره

و يثـني آخر :

لا يدفعون هَواماً عن وجوههم

                كأنهم خشب بالقاع منجَدِلُ

أو يرد صوت ثالث :

هجودٌ ولا غير التراب حَشية

                لجنبٍ ، ولا غير القبور قِبابُ

أو يخبرهن رابع :

قد أصبحوا في برزخ

                و مـحـلـة متـراخية

ما بـيـنهم متــفـاوت

                و قـبـورهـم مـتـدانـيـة

فمحلها مقـتـرب ، وساكنها مـغـتـرب ، بين أهـل موحشين ، وذوي محلة متـشاسـعـين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الإخوان . قد اقتربـوا في المنازل ، وتـشاغـلوا عن التـواصل حتى طحنهم بكلكَلِهِ البلى ، وأكلهم الثرى  .

وبينما هم كذلك إذ جاءهم من ليس هـو بفـضولي ، وعساه عند عمر بن عبد العزيز أو عنبسه أو القرظي يتدرب ، فيسألهم :

أين الوجوه التي كانـت محجّبة

                من دونها تـُضربُ الأستار و الـكـُـلـَلُ

و يميل بأذنه يريد جواباً منهم ما هـم بـقادرين عليه ، فتـنـوب عنهم التـلة الصغيرة تجيب ..

و أفـصـح الـقـبـرُ عنهم حين ساءلهم

                تـلك الوجوهُ عليها الدودُ تـقـتتلُ

قد طالَ ما أكـلوا دهـراً و ما نعِموا

                فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

فيتولى عنهم بجناح من الرهبة، خفيض، و دمع على الخدين يفيض ، يودع ويندب و يـقول :

أهـل الـقـبـور أحبتِي

                بعد الجذالة و السرور

بعد الغَضارة و النضارة

                و التـنعّم و الحُبور

بعد الحِسان المؤنسات

                و بعد ربّات الخدور

أصبحتم تحت الثرى

                بين الصفائح و الصخور

حـسـاب و كـتـاب

فيظلون بعد وداعه في انتظار مشهد ثالث يسمى : يوم البعث

يوم إنشقاقُ الأرض عن أهل البلى.

                فيها ، و يبدو السخط والرضوان ُ

يـوم الـقيـامـة ، يـوم يـُـظـلـم ظـلـم

                الـظالـمـين و يــشـرق الإحسانُ

{ أن تـقولَ نـفسٌ : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } و تـنادي أخرى : { هل إلى مَردٍّ من سبيل }

و تستغيث أخرى : { ياليتـنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } .

فهنالك ثالِثة يكون الوجل :

هناك إن كنـتَ قـدَّمت مُـدخـرا

                تـُسقى من الحوض ماءً غـير ذي أسَـنِ

وتـُـنـشر الصحفُ فيها كل مُحتـقـبٍ

                من المخازي وما قدّمت مـن حَسَـنِ

قد كنتَ تـنسى وتـلكَ الصحفُ محصية

                ما كنت تأتي ، ولم تَظلِم و لم تَخُنِ

فالسعيد ذاك اليوم من كانت له في يومنا هذا بهذا عبرة ، تَستخرج من عينه و قلبه عَبرة ، تـنطق لسانه رهبة وأسفاً ، ليدندن في الـلـيالي :

واحسرتي ، واشِقوتي

                من يوم نشر كتابيه

وأطولَ حُزني إن أكن

                أوتيـتـه بـشمـاليـه

وإذا سُئـلت عن الخَطأ

                ماذا يكون جوابيه ؟

واحَرَّ قلبي أن يكونَ

                مع الـقـلوب القاسية

كلا ولا قـدمت لـي

                عـملاً لـيوم حـسابـيـة

بــل إنني لشقـاوتي

                وقسـاوتي و عـذابـيـه

بارزت بالــزلات في

                أيــام دهــرٍ خـالـيـه

من ليس يخـفى عنه من

                قُبح المعاصي خافية

ما بعد هذا إلا التشمير

فأما صاحب القـلب الحي فنقـُصّ له قصة الأيام الثلاثة هذه . وأما أموات القـلوب فذرهم في ركستهم يتخبطون .

{ ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل فسوف يعلمون } تَمتّعَ آكلةِ الخَضِرَةِ التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آكِلة الخَضِرَة أكلت .

حتى إذا امتَدت خاصِرتها : استـقـبـلت الشمسَ .

فاجترت وثـَـلطت ، وبالت .

ثم عادت فأكلت )

هكذا كالخرفان تماماً ، يأكـلون و ينامون ، فيتغوطون ، فيعودون إلى الأكل ، ولا شيء آخر .

تعست حياتهم !!

فتدبر أمرك أيها المسلم و تأمل .

وقـف ولا تعجل .

فإنك لممتحَن ، و بكسبك مرتَهَن .

وإنه :

سيأتيك يوم لست فيه بمكرَم

                بأكثر من حَثو التراب عليكا

بل يرى أصحابك ذلك غاية الإكرم لك .

يقولون : كان رحمه الله صديقاً لنا ، ولا بد أن نكرمه ، وواجب أن نحضر لنحثوا التراب عليه .

وكم قد رأينا فـتى ماجداً

                تـفـرّع في أسرة ماجـده

رماه الزمان بسهم الردي

                فأصبح في التـلة الهامدة

فاذكر، واتعـظ،  ولا تـنشغل بالأمل عن ذكـر قـصة الحصار والحصاد والأجل عَسَـيتَ بفضل الله تـنجو، وتـفوز ببعض ما المؤمن يـرجـو ...

من كتاب "الرقائق" للأستاذ محمد أحمد الراشد.