يعرف أصغر دارس للاقتصاد والسياسة إن ارتباط الدول بالاستدانة من صندوق  النقد الدولي أشبه بعلاقة المدمن بتاجر المخدّرات، وهي العلاقة التي تنتهي، على الأغلب، بضياع ذلك الذي سلم نفسه للإدمان، فينتهي منتحرًا أو منحورًا بسيف الديون والفقر.

يستشعر متعاطي المخدّرات لذة في البدايات، منتشيًا بالحالة الحالمة التي توفرها له جرعة المخدّر، فيظن أنه صار أقوى وأنشط وأسعد، حتى يصل إلى المرحلة التي يتحكّم فيه المخدّر، فيصبح عبدًا للجرعة ولبائعها، لا يستطيع الخروج من هذه الدائرة حتى لو أراد ذلك.

 

أما في حالة الدول المدمنة على القروض فالكارثة أعظم، إذ أن الضياع هنا لا يتوقّف عند المتعاطي وحده، بل يطال أمةً بكاملها تجد نفسها أدمنت الاستكانة والضعف، والتظاهر بالعجز وقلة الحيلة، بالعمق نفسه الذي يستسلم به المدمن لمصدر المخدّرات.

والوضع كذلك، فإن ادّعاء الدهشة أو الصدمة من عربدة الدولار بالعملة المحلية في مصر يبدو، بحد ذاته، أمرًا مدهشًا، إذ يمتلئ التاريخان، القريب والبعيد، بعديد النهايات التراجيدية الدامية لدولٍ استكانت للوثة الإدمان من صندوق النقد الدولي، ففقدت كل شيء، وسقطت منهكةً ومنتهكةً في فراش التبعية السياسية والاقتصادية الكاملتين.

يخيّل للمدمن، طوال الوقت، أنه الأعقل والأحكم والأكثر فهمًا وإدراكًا وخبرةً بكل شيء، فيزداد طغيانًا على نفسه وعلى المحيطين به، في الدوائر الأقرب التي تتّسع شيئًا فشيئًا، حتى يبدو كائنًا مخيفًا للجميع، غير مسموحٍ بمعارضته أو محاولة إيقافه، أو حتى السخرية منه، والتي تصبح جريمة يتهدّد مرتكبيها الفناء.

يتندّر المصريون على الوضع البائس الحالي بأنهم في الطريق إلى اللبننة، والدخول في الحالة اللبنانية الراهنة التي وصل سعر الدولار الواحد معها إلى ما فوق الأربعين ألف ليرة لبنانية، فسقط لبنان من خريطة الدول المستقرّة، غير أن هذا التندّر وهذه المقارنة تظلم لبنان والشعب اللبناني كثيرًا، إذ تبقى ثمّة اختلافاتٌ جوهريةٌ بين الحالتين، أهمها على الإطلاق أن لبنان، بالرغم من كل آثار الأزمة الاقتصادية، لا يزال محتفظًا بحالة إنسانية محترمة، عمادها مجتمع إنساني متعايش ومبدع في ابتكار وسائل لإدارة شؤون حياته، من دون توحّش طبقة على طبقة وطائفة على أخرى في مجتمع قائم على تنوّع طائفي واسع.

رغم الإفلاس والفقر، لا يزال اللبنانيون قادرين على الصمود في مواجهة عقوبات حصارٍ عربيٍّ صامت، وخصوصًا من الدول الشقيقة صاحبة النفوذ على أهل الحكم، كما لا يزال الصباح صباحًا والمساء مساءً، ولا زالت فيروز توزّع أغنياتها على البيوت كل صباح.

إبداع الشعب اللبناني في تدبير أساسيات الحياة عجيب، وخصوصًا مع الانسحاب الكامل للحكومة من أدوارها الرئيسة، إذ لا كهرباء ولا مياه تأتي من الحكومة للمنازل، فقرّر أصحابها تشكيل حكومات صغيرة موازية في كل منطقةٍ وكل ضيعة، بل وفي كل بنايةٍ توافق سكانها بشكل ديمقراطي وعادل على تأمين احتياجاتهم من الكهرباء والمياه والغاز بطريقتهم الخاصة، مقابل رسومٍ شهريةٍ تدفع بانتظام.

في لبنان، رغم الأزمة الطاحنة، لم ينفلت المجتمع أو ينزلق على طريق الجرائم المروّعة، ولم تتغوّل السلطة أمنيًا فتقمع الناس وتجرّدهم من وطنيتهم أو تخفيهم قسريًا أو تسرق ممتلكاتهم وأموالهم أو تعتقلهم وتعذّبهم وتقتلهم في السجون.

يسخر اللبنانيون من رئيسهم في الصباح والمساء، على محطّات التلفزة والإذاعة وفي الشوارع والمقاهي والبيوت، يلعنون الحكومة والوزراء بأعلى الصوت، وينامون في بيوتهم آمنين، لا يدفع الواحد منهم سنواتٍ من عمره في الحبس الاحتياطي عقابًا على إطلاق نكتة أو رفع لافتة ضد الحكومة والرئيس.

في لبنان، يستطيع السائح الأجنبي والعربي أن يأتي ويمضي أيامًا لا يراقبه كظله العسس، ولا يعتبره الأمن عدوًا خطيرًا يتعقبه منذ وقت الوصول وحتى وقت المغادرة، ولا يستوقفه شرطي أو مخبر في الطرقات يسأله عن هويته، وماذا يفعل هنا، أو يعتبره جاسوسًا، يمكن أن ينتهي به الحال مثل جوليو ريجيني في القاهرة.  

لا تفرض السلطات اللبنانية صنمًا من الخواء معبودًا لا يمسّه أحد بكلمة أو إيماءة أو جملة مخبأة في مقال، ولا تكفر المواطنين وتخوّنهم بحجّة حماية الأمن القومي، ولا تتسوّل من العالم بحجّة الحرب على الإرهاب، فما زالت جدران المباني المحيطة بمبنى سراي الحكومة في ساحة رياض الصلح تحتفظ بشعارات الثورة ولوحات الغرافيتي التي تتهم أهل الحكم بالفساد السياسي والمالي، وتنظر إليهم بوصفهم عصابة، ولم يؤثر ذلك على سلامة المجتمع وأمن الوطن أو يعرّض مستقبل البلاد للخطر.

لا تفتح دول الخليج خزائنها للبنان، الصغير مساحًة بما لا يزيد عن مساحة محافظة مصرية، والقليل التعداد، أقل من نصف عدد سكان محافظة الجيزة، ولم تتساقط عليه عشرات المليارات من المانحين والمُقرضين، كما تنهمر بكثافة على أصحاب السلطة في مصر، ومع ذلك تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءًا.

الحاصل في لبنان أن الحكومة أسقطت الشعب من حساباتها، كما أسقط الشعب الحكومة من حساباته، وقرّر أن يدير نفسه بنفسه، فيما احترم كلا الطرفين هذه الصيغة، حيث الحكومة حرّة في تخبّطها وفشلها، والشعب حر في السخرية من هذا الفشل، من دون أن يعرّضه ذلك لمذابح جماعية وتجفيف كامل للحق في التعبير عن الألم والأمل.

باختصار، لا يجد اللبنانيون الخبز بسهولة، لكنهم ما زالوا يتمتعون بشيءٍ من الحرية التي تليق بالبشر. ولذلك لا يخنقهم الإفلاس ويقتل رغبتهم في الحياة والقدرة على الاستمرار فيها.

فاللهم بلّغ المصريين الحالة اللبنانية.

المصدر: العربي الجديد