أشرف شعبان الفار

ذم الله الغفلة والغافلين في كتابه في مواطن عديدة، ونهى المؤمنين عنها، فمن ذلك قوله- تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} سورة الأنبياء، ومنها: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} من سورة النحل. وفي سورة الكهف: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

هكذا وفي كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ينهانا الله عن الغفلة، ولا يحب الله لنا ولا يرضى أن نكون من الغافلين، يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} يفسر السعدي هذه الآية، فيقول: يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين، المتبعين إبليس اللعين: وَلَقَدْ أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ صارت البهائم أحسن حالا منهم. لَهُمْ قُلُوبٌ لا يصل إليها فقه ولا علم، إلا مجرد قيام الحجة. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم، بل فقدوا منفعتها وفائدتها. وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم. أُولَئِكَ الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالبهائم، التي فقدت العقول، وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى، فسُلبوا خاصية العقل. بَلْ هُمْ أَضَلُّ من البهائم، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له، ولها أذهان، تدرك بها مضرتها من منفعتها، فلذلك كانت أحسن حالا منهم، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره. خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود. فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال أهلها يعملون. وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال أهل الجنة يعملون.

فالغافل هو من غفل عن الإيمان بالله، وطاعته، وذكره، هو من لم يستعمل فؤاده وسمعه وبصره لتكون عونا له على طاعة الله، بل استعملها فى معصيته، والغافل مستحق للعقاب، خاسر هالك.

وتلك إحدى محاسن رمضان الكبرى، فرمضان ينجي المؤمن الصادق من هذه الغفلة المهلكة، رمضان يعطيك القوة الحقيقية، لتمحو اسمك من سجل الغافلين، ويدربك أن تكون من الأكياس الفطناء، (فالمؤمن كيس فطن) كما بلغنا رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم.

المؤمن كيس فطن، عاقل حذر، حريص على ما ينفعه، يسارع في الخيرات، ينافس الصالحين، يبتغي رضوان الله؛ لذا، فالأصل أن المؤمن بعيد عن الغفلة والغافلين كل البعد. لكننا بشر، يعترينا من الضعف والشهوات والسقوط ما يصيب البشر، وعندها تغشانا رحمة الله، وتتداركنا عنايته، فعندما يأتينا رمضان يغسل عنا كل هذا، يزيل عنا ما علق بنا من غفلات، فإذا نحن متذكرون يقظون حذرون متقون. وإذا المؤمن في رمضان على خير ما يحب الله ورسوله.

فماذا لو تمسك المؤمن بنفسه الرمضانية، بعقله الرمضاني، بقلبه الرمضاني، بسمعه الرمضاني، ببصره الرمضاني، بأخلاقه الرمضانية، وصفاته الرمضانية الرائعة، ماذا لو تعلق بكل ما في رمضان، وعض على خيراته بنواجذه؟ ماذا لو جعل رمضان ميزانه، يعرف به استقامته، وقربه من الله، يعرف به جميل الصفات والأفعال، فهكذا يجب أن يلقى الله، ونحن ندعو: (اللهم اجعل خير أيامنا يوم أن نلقاك)، فيعزم المؤمن على أن يكون حاله في رمضان هو حاله الذى يلقى الله عليه، وهذا يقتضي المحافظة على ما في رمضان من خير وبر، وأعظم هذ الخير والبر ما احتواه قلب المؤمن وعقله ولسانه وجوارحه، وجميل الصفات والأخلاق، فمن المعلوم تفاوت المؤمنين في الطاعات المجردة من نوافل الصيام والقيام، وغيرها. لكن محل نظر الله- سبحانه- القلوب والأعمال.

فرصتنا في رمضان كبيرة عظيمة، بل، هي فرص يصعب حصرها كثرةً، ولعل أعظمها أن ينجو المؤمن من الغفلة، وإلى الأبد، أن يحطم قيوده، ويبصر الحقيقة، أن يعى ويعقل ويبصر ويسمع كما أراد الله له، فرصته في أن يحيا حياة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، يحيا حياتهم ليصير إلى مصيرهم، ورمضان يمنحك هذه الفرصة، بهذا الوعى الشامل، والإدراك المحيط العميق، بهذا التركيز والإصرار والوعى، الذى لن تجده فى عبادة من العبادات، فحتى الصلاة يقع فيها السهو والخطأ! أما الصيام فنسيج وحده، ونظام ربانى فريد، يأخذ الإنسان كل الإنسان، بكل ما فيه من مادة وروح، ونفس وشهوات، وقدرات وإمكانات، وعادات وأخلاق، وجوارح وخطرات، يأخذه الصيام كله، لا يدع منه شيء، فيغمسه في نهره، نهر اليقظة والمراقبة، نهر الحذر والمحاسبة، نهر قيادة النفس والتحكم فيها، نهر التقوى، نهر الريان.

رمضان يصنع من الإنسان إنسانًا غير الذى كان، رمضان يتيح لنا عالمًا آخر، ينقلنا بكليتنا إليه، بقوانينه الخاصة، ونظمه الخاصة، ومشاعره الخاصة، وروحه الخاص، إنه عالم اليقظة التامة، عالم التركيز، عالم التذكر، عالم الحقائق، إنه عالم الصيام. فتقبل أيها العاقل منحة الله لك، ولا تكن من الغافلين!