د. يحيى عثمان
أستاذي الكريم، أكتب إليكم وقد مقتُّ نفسي وصديقة عمري وكل ما حولي حتى والديّ، فهم السبب فيما ولغت فيه من خطيئة، نشأت في أسرة شكلها مثالي، أب عصامي بدأ حياته مهندساً في مصنع، والآن يمتلك عدة مصانع، يوفر لأسرته فوق ما تحتاج، كريماً في كل ما هو مادي، لكنه شحيح في الحب، لأنه لا يعرفه ولا يعترف به، حفظت وإخوتي نصائحه كيف هي قيمة الشهادة والنجاح، وقد مللنا حديثه عن إنجازاته التي تتمحور فقط في عمله، نقضي العطلات في أفخم الفنادق، ونذهب دونه، وعند عودتنا لا يبدي أي قدر من عبارات الشوق، حتى لو عبّرنا عن شوقنا له ينظر إلى الفواتير ويقول: «واضح أنكم تمتعتم جيداً»!
أُمٌّ تتفانى في خدمتنا، ولكنها صورة مطابقة لأبي، تعمل طبيبة، وتتابعنا من خلال التقارير المدرسية، كل اهتمامها ينصب على تفوقنا الدراسي، وأدائنا للعبادات، تبذل قصارى جهدها لتوفير متطلباتنا والتوفيق مع متطلبات عملها كطبيبة، ولكنها لم تجلس معنا يوماً في حديث ودي كأُمٍّ مع أولادها، أنا الأبنة الوحيدة ولي أخوان يكبراني، كل منا يعيش في غرفته، علاقتنا بأمي عندما تصرخ علينا للاستيقاظ حيث يكون السائق في انتظارنا، وعند العودة نجلس لتناول الغداء والكل يتابع الهاتف، أما العشاء فعادة يكون «دليفيري»، وكل في غرفته!
علاقة والدينا بنا تتجدد شهرياً عندما يأتي التقرير الدراسي، فالهدايا المادية للمتفوق، والسخرية والتقريع لمن أخفق، إذا حصل وتلاقينا فسلسلة الأوامر والمواعظ والتنبيهات، أما خلاف ذلك فنحن آلات تسير على نمط ممل.
تعرفت على الإنترنت منذ صباي عندما أهداني والدي أحدث هاتف لتفوقي ودخولي المرحلة المتوسطة، ومنذ ذلك الوقت وأصبح العالم الافتراضي عالمي الحقيقي، صديقتي وسبب مأساتي زميلتي بالفصل، وهي وحيدة والديها، وهم جيران لنا، والدها يعمل بالخارج ووالدتها طبيبة وزميلة والدتي بالمستشفى، كنت أنا وصديقتي تقريباً نقضي معظم الأوقات معاً، دلتني صديقتي على المواقع الإباحية، وأصبحتْ متعتنا التي لا نفارقها، وتعرفنا على العلاقة بين الأنثيين، ووقعنا في الخطيئة معاً، حدث ذلك عندما كانت والدتها لديها نوبة ليلية تنتهي حوالي الساعة العاشرة مساء، وقد استسمحت والدتي أمكث مع صديقتي حتى تعود ووافقت والدتي، تكرر ذلك أسبوعياً، حيث كنا ننتظر يوم النوبة الليلية لوالدتها لتكرار الخطيئة.
اليوم في التربية الإسلامية شاء الله تعالى أن تتحدث المدرسة عن عفة المرأة المسلمة، وتطرقت إلى الرذيلة التي قد يمارسها بعض من طمست فطرته من غير المسلمين وحكم الشرع في إتيان المرأة للمرأة، ووجدتني شاردة فيما أنا فيه وصديقتي، ذهبت إلى البيت وأغلقت غرفتي عليَّ وجلست أبكي وقررت الكف عن هذا الإثم، ورن هاتفي وإذ بالشيطان -أقصد صديقتي- تبشرني أن والدتها لديها نوبة ليلية اليوم، حدثتها بقراري، وأنني قررت ألا أذهب إليها، ولكن بناء على وعد منها أننا لن نفعل، ذهبت وضعفت، وقد تكرر ذلك عدة مرات، وفي كل مرة أعود وأبكي ويزداد احتقاري لنفسي، لقد فكرت في الانتحار تخلصاً من الضياع الذي أعانيه، وانتقاماً من والديّ، ولكني لم أستطع تنفيذ ذلك، فهل من حل لديكم؟
على غير ما تعود القارئ الكريم، سأبدأ بالحل، ثم التحليل، والدروس المستفادة من مأساة ابنتنا المعذبة:
إلى ابنتنا المعذبة..
– عليكِ ألا تمقتي نفسك، بل احمدي الله عز وجل أنْ وهبك نفسك تلومك على فعل ما يُغضبه سبحانه.
– نعم، لقد وقعت في إثم عظيم، وكبيرة من الكبائر، ولكن الله تعالى هو التواب الغفار، يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر: 53)، ومن شروط التوبة الندم على فعل الذنب والإقلاع عنه والعزم على عدم العودة، من رسالتك يتضح أنك ندمت، وهذا شعور طيب، ولكن ما لم يصاحبه عزم وإرادة قوية على الإقلاع عن الذنب وعدم العودة؛ فسيتكرر الخطأ؛ لذا عليك فوراً بقطع علاقتك بهذه الفتاة من خلال تغيير رقم هاتفك، وإخبار والدتك أنك قد اختلفت معها وقررت قطع علاقتك بها، وإن أصرّت والدتك أن تذهبي لصديقتك يوم نوبة والدتها، أسرّي لوالدتك أن صديقتك تتحدث في موضوعات غير مهذبة؛ بما يجعلها تخاف عليك منها.
– هناك فرق بين الندم على السلوك الخاطئ الذي أوقعنا في الذنب واحتقار النفس، فالندم شعور طيب ودافع للتوبة، بل شرط من شروطها، ويجب على المذنب أن يستحضر الندم على خطيئته ويتذكر شعوره بالذلة لأنه عصى الله واتبع سبيل الشيطان، ويكون ذلك دافعاً للاستغفار ومانعاً من العودة لهذا الذنب، أما احتقار النفس فهذا من سبل الشيطان ليصيب المسلم باليأس من العودة لله وإصلاح ذاته فينغمس أكثر في الخطيئة.
– حاولي الانضمام إلى مجموعة لحفظ القرآن الكريم بالمسجد المجاور لك، أو من خلال الإنترنت، كما أوصيك بصيام ما تيسر لك، فإنه من العبادات الجليلة التي تساعد على ضبط الشهوات، واحرصي على تكوين صداقات طيبة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ» (أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد واللفظ له).
– احرصي على شغل وقتك بما هو مفيد سواء بالقراءة في الموضوعات التي تشد انتباهك، مثل قصص الصحابة والصالحين، وهناك على «يوتيوب» مئات القنوات الطيبة سواء الإسلامية منها أو التي تتناول موضوعات المعرفة المختلفة، مثل تعليم اللغات، كما أن من المهم ممارسة رياضة تفضلينها، ودائماً أشغلي فكرك إما بالذكر أو بموضوع مفيد، ولا تذهبي إلى فراشك إلا وقد غلبك النوم، وبمجرد أن تستيقظي غادري فراشك، فإن ذلك يساعدك على تجنب همزات الشيطان.
– يجب ألا نعلل خطأنا على الآخرين، أنت بالغة ومكلَّفة، فأنت مسؤولة عن تصرفاتك، وإن قصَّر والداك أو غوتك صديقتك، وهذا الشيطان يتبرأ من الذين اتبعوه؛ (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) (إبراهيم: 22).
إلى الآباء والأمهات..
أولاً: التربية: إن أولادنا يحتاجون إلى التربية وليس فقط التغذية، وسماتها في:
– نشاط تفاعلي بين المربي والمربَّى: فالتربية ليست إصداراً لأوامر أو نصائح في اتجاه واحد من الوالد لابنه، ولكنها قراءة لحالة الابن ثم التفاعل معه بناء على حالته، ومرة أخرى فهم رد فعل الابن، ثم اختيار الأسلوب المناسب لرد فعل الابن وهكذا.
– استثارة الدوافع لدى المربَّى: فقد يستجيب الولد لتوجيه والده، ولكن إذا نجح الوالد في استثارة دوافع الولد، فقد ضمن ليس فقط الفعل المراد بكفاءة، ولكن أيضاً استمرارية الأفعال ذات العلاقة.
– تنمية المعارف وصقل المهارات وإطلاق القدرات: فالتربية منظومة لتنمية العمليات العقلية وتدريب الجوارح على كفاءة التعامل معها، وإطلاق القدرات الكامنة في داخل المربَّى.
أما مجالات التربية فهي:
– الروح: ربط المربَّى بمعية الله، والمرجعية الدينية للعلوم.
– العقل: أدوات التفكير والتزود المعرفي.
– الوجدان: التفاعل الوجداني مع أسرته أصدقائه، وكيفية التعبير عن مشاعره وفهم مشاعر الآخرين وحسن التفاعل المناسب معها.
– البدن: التربية البدنية وممارسة نمط صحي للحياة.
ولن يستطيع الوالدان القيام بفروض التربية إلا إذا تبادلا الحب والثقة مع أولادهما.
ثانياً: الحب: رغم قيمة وأهمية توفير المستلزمات المادية لحياة كريمة لأولادنا، فإن التربية الوجدانية تعتبر مفتاح كل أنواع التربية، وهي تأتي قبل التربية الروحية، يقول المولى عز وجل عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، يجب أن يكون حبنا لهم لذواتهم وليس لما يحققونه من نتائج دراسية، أي حب غير مشروط.
يمكن للوالدين أن يكون للحب المتبادل بينهما وولدهما من أكثر القناعات لاستثارة الدوافع، وإن التربية بالحب لا تعني الميوعة، بل يجب الحزم، ولكن دون قسوة، ويتم ذلك من خلال:
1- أدوات التواصل الوجداني:
– التواصل اللفظي: يجب التعبير عن حبنا لأولادنا من خلال حديثنا معهم: «ما أخبارك يا حبيبي؟»، يجب اختيار ألفاظ تعبر عن حبنا وشوقنا لهم بعد عودتهم من المدرسة أو عودتنا من العمل، وليس فقط الحرص على الألفاظ الرقيقة، بل نبرة الصوت الحانية.
– التواصل الجسدي: إن بث مشاعر الحب لأولادنا من خلال تقبيلهم واحتضانهم يشعرهم بالأمان النفسي.
– التواصل البصري: لعل نظرة حنان من أحد الوالدين تزيل ما بنفس الولد من ضيق، وتشعره بقيمته لديه.
2- الاهتمام: يجب أن يستشعر الأولاد اهتمامنا بهم من خلال تصرفاتنا معهم، وعلينا أن نوضح ذلك لهم.
3- التقدير والاحترام: إن تقديرنا واحترامنا لأولادنا يساعدهم على نمو شخصيتهم بطريقة سوية، ويساعدهم على صياغة صورة ذهنية محفزة عن أنفسهم، ويقربنا نفسياً منهم.
4- المعايشة: المعايشة تتم من خلال المشاركة في كل ما يمكن من أنشطة، التي يتم من خلالها بث التعبير عن حبنا لأولادنا وبث القيم التي تتناسب وإدراكاتهم.
ثالثاً: الثقة: الثقة من أهم دعائم التربية، ولها 3 محاور:
1- ثقة الوالدين في الأولاد: إن التعامل مع الأولاد بثقة بعيداً عن الشك والريبة فيهم يعتبر من أهم الدوافع للارتقاء بسلوكياتهم، هناك فارق كبير بين متابعة تصرفات الأولاد والتجسس ومراقبتهم رقابة لصيقة «خانقة» تفقدهم ثقتهم بأنفسهم.
2- ثقة الأولاد بأنفسهم: إن من أهم القيم الشخصية التي يجب أن يحرص عليها المربون ترشيد الولد لتنمية وتطوير ثقته بذاته، إن ثقة الولد بنفسه تساعده على النمو النفسي وتحمل مسؤولياته واتخاذ القرار المناسب له، كما أنها أساس أي إنجاز يسعى لتحقيقه.
3- ثقة الأولاد بوالديهم: إن الوالدين هما المصدر الأول للتربية، ويظل دورهما مؤثراً مهما تعددت المصادر التربوية، ولكن لا يتم ذلك إلا إذا كانا محل ثقة من أولادهما، وثقة الأولاد في والديهم لها شقان؛ أولهما: ثقة الدعم؛ فيجب أن يثق الأولاد ويرسخ في وجدانهم أنه مهما كان الخطأ الذي ارتكبوه، فإننا سندعمهم لمعالجته، ثانيهما: ثقة التوجيه؛ فلا حرج مطلقاً أن يسألني ولدي وأقول: لا أعرف، دعني أبحث أو أسأل، احذر كل الحذر أن يكتشف ولدك أنك تعطيه معلومة عن جهل، وإذا اهتزت ثقتهم بقيمة ما تقوله لهم فليس من السهل توجيههم تربوياً بعد ذلك.
أسباب وقوع البنتين في الخطيئة:
البنتان مجني عليهما قبل أن تكونا مخطئتين، من خلال:
– الفراغ الوجداني والعاطفي.
– فقدان العلاقة والثقة بالوالدين.
– عدم المتابعة.
إن التسونامي اللاأخلاقي الذي يجتاح العالم يهدد قيمنا، وعليه فمسؤوليتنا تجاه أولادنا تضاعفت حتى نكون عوناً لهم على اتباع قيمنا السامية، والله المستعان.
المصدر: المجتمع