لا ندري إلى متى يظل الساسة في مصر على جهل تام بالحقائق القريبة، بل القريبة جدًّا، التي يجب أن تكون أول المقررات التي تدرس للطلبة في المدارس؟!

وما ندري إلى متى نظل مخدوعين بالتعاليم الاستعمارية التي شوَّهت الحقائق بين أيدينا، وتعمَّدت إخفاء الكنوز الدفينة المنثورة في كل مكان من هذا الوطن الغني القوي العزيز؟!

ولا زلنا نذكر السورة الطويلة العريضة التي حفظناها- ونحن طلاب- من كتاب المستر هنري مارون عن مصر والسودان من أن مصر بلد زراعي، ولا يمكن أن تقوم فيه الصناعات لعدم ملاءمة جوّها، ولخلوّها من الخامات اللازمة والمواد الأولية الضرورية للنهوض الصناعي، إلى آخر هذه الأقصوصة التي كذبها الواقع أوضح تكذيب.

أكتب هذا بمناسبة ما ورد في بيان صدقي باشا على لسان أحد الساسة المصريين عن التعبير عن سيناء المباركة بلفظ برية سيناء، ووصفها بعد ذلك بأنها أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا نبات إلا أربعة بلاد جعلت للتموين وقت اللزوم.

وقد أثار هذا المعنى في نفسي سلسلةً من المحاولات التي قام بها المستعمرون منذ احتلوا هذه الأرض؛ ليركِّزوا هذا المعنى الخاطئ في أدمغة السياسيين المصريين، وفي أبناء سيناء أنفسهم، فأخذوا يقلِّلون من قيمتها وأهميتها، ويضعون لها نظامًا خاصًّا في التعليم والتموين والحكم والإدارة، ويحكمها إلى العام الماضي فقط محافظ إنجليزي يَعتبر نفسه مطلقَ التصرف في كل مقدراتها، ويجعلون الجمرك في القنطرة لا في رفح؛ إيذانًا بأن ما وراء ذلك ليس من مصر حتى صار من العبارات المألوفة عند أهل سيناء وعند مجاوريهم من المصريين أن يقال هذا من الجزيرة، وهذا من وادي النيل كأنهما إقليمان منفصلان.

مرت بنفسي هذه الخواطر جميعًا، فأحببت أن أنبِّه الساسة الكبار والساسة الصغار وأبناء هذا الشعب إلى الخطر الداهم العظيم الذي تُخفيه هذه الأفكار الخاطئة، ولا أدري كيف نقع في هذا الخطأ الفظيع مع أن القرآن الكريم نبَّهنا إليه ولفت أنظارنا إلى ما في هذه البقاع من خير وبركة وخصب ونماء؟ وأنها إنما أجدبت لانصرافنا عنها وإهمالنا إياها، فذلك قوله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20)) (المؤمنون).

إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليونًا من الأفدنة، أي ضعف مساحة الأرض المنزرعة في مصر، وقد كشفت البحوث الفنية في هذه المساحات الواسعة أنواعًا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصوَّر الناس، واكتشف فيها البترول حديثًا، ويذهب الخبراء في هذا الفن إلى أنه في الإمكان أن يُستنبط من سيناء من البترول أكثر مما يستنبط من آبار العراق الغالية النفيسة، وأرض سيناء في غاية الخصوبة وهي عظيمة القابلية للزراعة، وفي الإمكان استنباط الماء منها بالطرق الارتوازية (3) وإنشاء بيارات يانعة على نحو بيارات فلسطين تنبت أجود الفواكه وأطيب الثمرات، وقد تنبَّه اليهود إلى هذا المعنى ووضعوه في برنامجهم الإنشائي وهم يعملون على تحقيقه إذا سنحت لهم الفرص، ولن تسنح بإذن الله.

فمن واجب الحكومة إذن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها، ولا تدعها فريسة في يد الشركات الأجنبية واللصوص والسرَّاق من اليهود، وأن تسرع بمشروع نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود، فلعل هذا من أصلح المواطن للصناعة، ويرى بعض المفكرين العقلاء أن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش تضمُّ من شاء من المصريين، ومن وفد من فلسطين وسورية والعراق ولبنان وشرق الأردن وغيرها من سائر أوطان العروبة والإسلام، ويرون في هذه البقعة أفضل مكان للتربية البدنية والروحية والعقلية على السواء.

وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء برية قاحلة لا نبات فيها ولا ماء فهي فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوي ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدي غيرنا.

ولقد امتد إهمالنا لهذا الوطن العزيز، وانصرافنا عن دراسة الحقائق عن طبيعته ووضعيته إلى الجزء الجنوبي منه (السودان) بعد الجزء الشرقي (سيناء)، فسمعنا دولة رئيس الحكومة في بيانه يعرض للسودان في موضعين، ويمر به فيهما مرورًا خاطفًا، ولكن يضمُّ تحته كثيرًا من المعاني التي تحتاج إلى تفكير، فيقول في الموضع الأول في صدد المحالفة والمعاهدة وإنها للحصول على جلاء عاجل: "ولتسوية مسألة السودان على قواعد الشرف والكرامة مع ضمان مصالح إخواننا السودانيين"، وهنا نرى أن صدقي باشا ما زال يسترسل مع النغمة الإنجليزية التي تفرق بين مصر والسودان، وتجعل منهما شعبين مختلفين ووطنين متباينين لكل منهما مصالحه الخاصة به، وذلك فهم عريق في الخطأ ومصر والسودان وطن واحد وشعب واحد ومصالح السودانيين هي مصالح المصريين تمامًا، وإذا كان السودانيون يرون أن تقوم في بلدهم حكومة سودانية داخلية تحت التاج المصري فليس ذلك منهم إلا مراعاةً لبعض الأوضاع الخاصة في السودان، كما تبيح الحكومة المصرية للقبائل العربية في مصر أن يكون لها مشايخ منها، لهم وضعيتهم الخاصة، وتقاليدهم الخاصة، ولا يقال: إن لهم بذلك مصالح تختلف عن مصالح الوطن العامة.

ويقول في الموضع الثاني: "ومصر الحريصة على كرامتها واستقلالها وحقوقها في النيل تعلم هي الأخرى مبلغ الفائدة لها من مصادقة دولة عظمى كبريطانيا"، وهذا كلام يحتاج إلى تفكير حقًّا، فماذا يقصد دولة الباشا بحرص مصر على حقوقها في النيل؟!

إن مصر لا تحرص على وحدة الوادي لمجرد حصولها على ما تحتاج إليه من هذا الماء، كما لا تحرص على الإسكندرية مثلاً؛ لأن ميناءها على البحر، فهذا التفكير المادي البحت بعيد عن الشعور المصري، وإن أراد الإنجليز دائمًا أن يصوِّروا الأمر بهذه الصورة، وجاراهم في ذلك رئيس الحكومة، ووقع في هذا الفخّ كثير من الساسة المصريين، ولكنَّ مصر حريصة على السودان لأنه جزء من حدود هذا الوطن، ولأن أبناءه مواطنون حقيقيون بدمهم ولغتهم وعقيدتهم وشعورهم وآلامهم وآمالهم وأنسابهم وألقابهم، وعلى الساسة المصريين أن يدركوا هذه الحقيقة ويؤمنوا بها مهما جهلها أو تجاهلها الساسة البريطانيون.

كم نتمنى أن نستقل ونتحرَّر في أفكارنا ومشاعرنا لنتحرَّر بحق في أوطاننا وتصرفاتنا (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: من الآية 41).

----------

المصدر: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (137)، السنة الأولى، 18 ذو القعدة سنة 1365هـ/13 أكتوبر 1946م