تحت عنوان (ثمن الحياة) كان حديث الأستاذ "البنا"، الذي أذاعه من محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة، ونشرته مجلة (الفتح)، العدد 857، في رجب 1367هـ= 1948م، جاء فيه:

"عجيب أن يكون ثمن الحياة هو حب الموت، ولا ثمنَ لها إلا هذا، ولهذا كان فيما أوصى به أبو بكر- رضي الله عنه- خالدًا في بعض غزواته: "يا خالد، احرص على الموت توهب لك الحياة".

والقرآن الكريم يقرر أن الفناء في الحق هو عين البقاء، وأن ذات الموت في سبيل الله هو حقيقة الحياة، فيقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾  (آل عمران: 169- 170).

وتأمل هذه الإشارة اللطيفة في الآيات الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ*وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 143- 245).

لتعلم أن الموت ثمن الحياة، وأن حب الحياة نذير الموت، وأن الأمة التي تريد أن تعيش كلها لابد أن تموت كلها؛ لأنها لم تدفع من دمها ضريبة الحياة.

"وليس حب الموت ثمن الحياة وحدها، ولكنه ثمن الحياة وثمن النصر وثمن العزة وثمن الخلود، وهي أطيب ما في الحياة، وهذا قانونٌ لم يتخلَّف من قبل، ولا يتخلف اليوم، ولن يتخلفَ من بعد؛ لأنه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً".

"لقد أدرك أسلافنا هذه الحقيقة، فحرصوا على الحياة الكريمة بالإقدام على الموت في ساحات البطولة والمجد، وكان أحدهم يندفع إلى القتال لا يبالي أَوَقَع على الموت، أم وقع الموتُ عليه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).

وفي مقالٍ بعنوان (فن الموت) في جريدة (الإخوان) اليومية 16/8/1946م، جاء فيه:

"والموت فنٌّ.. وفنٌّ جميل أحيانًا على مرارته، بل لعله أجمل الفنون إذا تناولته يد الفنان الماهر.. ولقد عرَضه القرآن على المؤمنين به عرضًا كريمًا، وجعلهم يحرصون عليه ويحبونه، ويهيمون به حبَّ غيرهم على الحياة.. وللناس فيما يعشقون مذاهب.. ولن ينجي المسلمين اليوم مما هم فيه إلا أن يعودوا إلى فلسفة القرآن في الموت.. ويتلقَّونه على أنه فنٌّ.. بل فنٌّ جميل حقًّا".