الفجر أحبتاه .. شارة من شارات الشرف .. يقلِّدها الله زمرة من عباده اصطفاهم من بين خلقه، ومِن شرف الفجر أن يسبقه نداء رب العالمين في ثلث الليل الآخر: هل من مستغفر .. هل من سائل .. هل من داع .. والمسيء غير مستحق لذلك الشرف لذا لا يشهده، لأن السلعة الغالية لا ينالها الراقدون، والجوهرة النادرة لا يظفر بها إلا المُجِدّون، فلا يقوم فجرا إلا من ألبسه الله ثوب رضاه، واطلع على قلبه فعلم صدقه وتقواه، وما أقبح مقابلة الود بالجفاء، والرد على اللطف بالإعراض والسبات.   حين رأى نفسه ميتًا!!

يقول الوالد الحبيب رحمه الله في مذكراته تحت عنوان(جئت من الدار الآخرة): "عاهدتُ الله أن لا أتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد مهما كانت الظروف إلا لعذر قاهر لا سيما صلاة الفجر، وبقيت على هذه الحال بضع سنين، وأعانني على ذلك أن كان بجوارنا رجل صالح هو الحاج سليمان محمد كان قد ابتنى مسجدًًا في الدور الأرضي من عمارته، ودعاني للإمامة فيه، وكان يمر كل  ليلة في الهزيع الأخير من الليل، وقبل الفجر بساعة أو بعض الساعة يترنم بصوته الندي، يوقظ الوسنان ويطرد الشيطان وهو يقول: لا إله إلا الله، الملك الحق  المبين، محمد رسول الله، الصادق الوعد الأمين، الصلاة يا مؤمنون الصلاة .. الصلاة خير من النوم". 

 ويمر آخر يقول:

يا نائمًا مستغرقًا في المنام *** قم واذكر الحي الذي لا ينام

مولاك يدعوك إلى ذكره *** وأنت مشغول بطيب المنام

 الصلاة يا مؤمنون الصلاة *** الصلاة خير من النوم

فأهبُّ من نومي ثم أتوضأ، وأقرأ ما تيسر لي من القرآن، أو أصلي ما شاء الله لي أن أصلي حسبما يسمح الوقت، ثم أتوجه إلى المسجد حيث نؤدي الصلاة ونجلس في مصلانا نذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع مقدار رمح أو رمحين ثم نصلي سُبحة الضحى، وينصرف كل منا إلى حال سبيله. واستجدت ظروف شغلتني عن صلاة الفجر بسبب السهر، فكان الرجل يمر ليوقظني فأستجيب مرة وأغفو مرات حتى يئس من أمري، وراح ولم يعد، وإذا صادف واستيقظت من تلقاء نفسي، فإني أذهب إلى مسجد آخر، تفاديا للوم الأصحاب وتقريعهم، ولكني في الحقيقة لم أكن راضيًا عن نفسي، وكان الإثم لا يفتأ يحيك في صدري، فالعهد بيني وبين الله، ومن الحرام نكث العهد وأنا أتلو قول الله تعالى في أكثر من موضع من القرآن، بل أحفظه عن ظهر قلب: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء من الآية:34].

وبينما أنا في هذه المشغلة النفسية لا يهدأ لي بال، ووخز الضمير يؤلمني، رأيت في ما يراه النائم أنه قد حضرني أجلي، وقام الغاسل بتجهيزي، وسط بكاء الأهل ونحيبهم، فلما فرغ حملت على النعش وخرج أهل القرية عن بكرة أبيهم يشيعونني، حتى انتهوا بي إلى المقابر، فأودعوني وأهالوا علي التراب، وبعد أن نفضوا أيديهم من تراب القبر، اصطف الأهل يتقبلون عزاء المشيعين، وأنا على ذلك كله كما لو كنت في اليقظة، لا يند عني قول أو حركة، الأحداث واضحة كفلق الصبح لا مرية فيها ولا غموض، وتذكرت وأنا ملقى في القبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنه ليسمع خفق نعالهم وهم ينصرفون»، وخفتت الأصوات رويدًا ًرويدًا، ورأيتني في القبر وحيدًا فريدًا لا أنيس ولا جليس، وأطبق الصمت على المكان.

وكنت وأنا صغير مغرمًا بتشييع من يموت عندنا فأسمع الملقن يقول: "فإن أتياك وأجلساك وسألاك وقالا: لك من ربك ومن نبيك وما دينك" ودارت هذه الكلمات في ذهني وترقبت مثول الملكين، وما هو إلا أن بدا من ناحية في القبر رجل فارع الطول يلبس بزة عسكرية وبيده عصا قصيرة، متأبطا سجلاً (دوسيه)، فلما انتهي إلي وكنت راقدًا، فزعت جالسًا، فسألني سؤالاً واحدًا: "أنت مواظب على صلاة الفجر ولالأ؟" وحرت في الجواب لا سيما والعصا في يده، والملف تحت إبطه، لو أجبت بنعم فالملف يكذِّبني والعصا تؤدِّبني!! ولو قلت لا فهو يخالف الحقيقة لأني لم أنقطع تمامًا عن صلاة الفجر، ولكن الله ألهمني الجواب المناسب: "الحقيقة مش على طول"، فقال بلهجة صارمة كلها تهديد: "طيب!!".

 

وتوقعت أن يحل بي العذاب لامحالة، ولكنني لم ألبث أن انتبهت من نومي وأنا غاية الفزع، فالتفت حولي فلما أيقنت أن ما كان إنما هو حلم ذهب عني الروع، وتنفست الصعداء، وانطلق لساني يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، ونهضت مسرعًا فتوضأت، وكان الفجر قد اقترب، فتوجهت إلى المسجد بعد غيبة دامت شهورًا، ثم أقيمت الصلاة وصليت بالناس إمامًا كسابق عهدي، وما إن فرغت من الصلاة حتى أقبلوا علي يلومونني على هذه الغيبة الطويلة، فما كان جوابي عليهم إلا أن قلت: "أتدرون من أين أتيتكم اليوم؟! إنني قادم من الدار الآخرة"، وأخبرتهم بالخبر.  

دروس خمسة:

وأنا هنا أشير إلى خمسة معان غالية استقيتها من هذه الرؤيا الصالحة والتنبيه اللطيف:

1ـ بشرى كل مؤمن: سئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64]، فقال: ما سألني أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له».

وفي الحديث: «الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة»، وفي حديث آخر: «جزء من ستة وأربعين»، و في صحيح مسلم من حديث ابن عمر : «جزء من سبعين»، وهذا الاختلاف راجع إلى حال صاحب الرؤيا فكلما كان صالحًا كانت النسبة أعلى. من لطف الله  .. أنه إذا بدا من عبده تقصير أو بدايات نزول نبَّهه بتعسير أمر أو شجار مع زوج أو تشويش ذهن أو ضياع رزق وشيك، أو لعل ذلك يكون عن طريق رؤيا صالحة تعيد العبد إلى رشده وتقيمه على الجادة كما حدث مع الوالد الحبيب رحمه الله، ليراجع كل منا نفسه ويقرأ الرسائل الربانية قبل أن يردَّ عليها عن طريق قلبه بتوبة، وعقله بصحوة، وجوارحه بإتباع السيئة بالحسنة.  

2ـ الفجر امتحان: بل أول امتحان يخوضه كل منا صبيحة كل يوم، لينجح فيه من وثب من فراشه صافَّا قدميه بين المصلين، ويرجع بالخيبة والخسران من اختطفه الفراش الدافئ والنعاس اللذيذ، وما أقبح يوم بدأ بعصيان الله ومخالفة أمره. الفجر أحبتاه .. شارة من شارات الشرف .. يقلِّدها الله زمرة من عباده اصطفاهم من بين خلقه، ومِن شرف الفجر أن يسبقه نداء رب العالمين في ثلث الليل الآخر: هل من مستغفر .. هل من سائل .. هل من داع  .. والمسيء غير مستحق لذلك الشرف لذا لا يشهده، لأن السلعة الغالية لا ينالها الراقدون، والجوهرة النادرة لا يظفر بها إلا المُجِدّون، فلا يقوم فجرًا إلا من ألبسه الله ثوب رضاه، واطلع على قلبه فعلم صدقه وتقواه، وما أقبح مقابلة الود بالجفاء، والرد على اللطف بالإعراض والسبات.  

3ـ والفجر ميزان: يوزن به الإيمان، ومؤشِّر أولي لرجحان كفة الحسنات أو كفة السيئات، ويستطيع به العبد أن يعرف به قربه أو بعده من مولاه، فمن رجحت كفة إيمانه انتبه من فوره لصوت الأذان، وإن خفَّت الكفة كانت الأخرى، وما انتباهة الفجر في حقيقتها إلا حصيلة يوم كامل من سعي العبد مختزلة في لحظة واحدة، وكأنك تطلع على حصاد يومك وليلتك في انتباهتك فجرًا أو غفلتك، وتعلَّم أخي دقة الوزن وطريقة المحاسبة من عمر!!

أصابت عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمرة في رأسه أثناء رمي الجمار في موسم الحج، فماذا قال؟!  قال: "جمرةٌ بذنب وما يدفع الله أكثر!!". ليسفر رضي الله عنه عن همة عالية في مراقبة النفس وانتباهة فريدة في محاسبتها .. استحق معها أن تفر الشياطين بين يديه وتتوارى إذا رأت ظله من بعيد، ومرسيًا قاعدة التعامل ولغة الحوار الوحيدة التي يفهمها الأبالسة ومن أهلها يفرون.  

4ـ غفوة بين صحوتين: الفتور طبيعة بشرية لا تلبث أن تظهر بمرور الأيام وتعاقب الأحوال، فصاحب العمل الشاق مثلاً غير صاحب العمل غير الشاق، والمُكبَّل بوظيفة تستهلك سائر يومه غير صاحب العمل الحر، والفارغ غير المشغول، وهذا كله ينحت في صخرة الإيمان ولو كانت في صلابة الصخر، مما يجعل الفتور لا مناص منه، لكن المهم .. هل تنتبه إذا نزلت بك نزلة فتور؟! هل تقيس نفسك باستمرار: أفي صعود أنت أم في هبوط؟! وإلى كم يستمر فتورك؟ وإلى أي درك أسفل يهوي بك؟! وإذا كانت بشريتك تجعل من الفتور حتمًا مقضيًا وضربة لازب فإن الانتباه الفوري وسرعة الانتفاضة هي ما أكثر يُسعد الرب ويغيظ زمرة الشياطين المتآمرة عليك، لتبني وتهدم في آن واحد، تبني ما انهدم من إيمانك، وتهدم ما دبَّروه من كيدٍ لك وإفسادك.  

5ـ خلاصة تجارب وبذور أرباح: خذ بأسباب القيام من نوم على طهارة وأذكار النوم وتبكير ما استطعت، فإن قمت فقد تم لك ما أردت، وإلا فقد نلت شرف المحاولة، وفارق كبير بين من حاول الوصول فما بلغ وآخر فرَّ من المعركة دون أدنى مقاومة.

والذي يهمل أسباب الاستيقاظ فيقوم بضبط المنبه على ساعة متأخرة أو يبالغ في السهر لغير ضرورة أو ينام على معصية، أخشى أن يقع تحت مظلة هذا الحديث وتنزل به عقوبته: «ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فمن تركها متعمِّدًا فقد برئت منه الذمة».

لا تدع الفجر في المسجد ولو فاتتك التكبيرة الأولى والجماعة الأولى، فإذا كان الشيطان قد نجح في إصابتك فلا تدعه يستذلك ويستعبدك، فالبطل الشجاع يجتهد في تقليل خسائره ما استطاع لا يستسلم، يأسك قاتلك: إن سقطت مرة أو مرات فعوِّد نفسك سرعة إصلاح ما انكسر، ومواجهة الضربة الشديدة من شيطانك بضربة أشد، واعلم أن الصراع مع عدوك اللدود لن ينتهي إلا مع آخر أنفاس حياتك، والحرب سجال، واليأس شيمة الضعفاء ومسلك الجبناء، الفجر روح ومن طبيعة الروح أنها تسري، فلا تغلق الباب في وجه يقظتك، ولا تحبسها عند حدود نفسك، بل أطلقها في أهل بيتك: زوجك وولدك ملبيا أمر ربك: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه من الآية:132]، عصابة الفجر: إذا استطعت أن تكوِّن رابطة من إخوانك أو جيرانك توقظهم للفجر ويوقظوك، وتعينهم ويعينوك فافعل، لتكون بذلك قد استفدت وأفدت، استفدت من وجود المعين الذي ينبِّهك إن سهوت، وأفدت بإيقاظ غيرك لتنال مثل أجره كاملاً.

كان والدي في بعد انقضاء رمضان ينتقي عشرة من نبهاء المصلين الذين حافظوا معه على صلاة التراويح، ويتفق معهم أن يوقظهم كل يوم لصلاة الفجر بعد رمضان وذلك عبر الهاتف، ثم يكلِّف كل واحد منهم بإيقاظ عشرة آخرين ممن شهدوا معهم القيام، ليحصد أجر ما يزيد على مائة مُصلٍّ للفجر ضربة واحدة!! عمل ما أيسره .. أجر ما أوفره!! ولا شك أن الأثر لا يوصف، فالانتقال من طور التغير إلى طور التغيير ومن دائرة الصلاح إلى دائرة الإصلاح من أعظم ما يرسِّخ في القلب الطاعة ويعين على الثبات عليها. ورجعة إلى الوالد الحبيب .. أشهد أنه مات على أفضل ما يكون وأنشط ما يكون وأحرص ما يكون على صلاته، تأخر يومًا في أيام مرضه عن صلاة من الصلوات بسبب شدة آلامه، وأصابته سِنة من النوم ليرى رؤيا صالحة أن ملكًا من السماء عاجله بماء من الجنة ليتوضأ به ويصلي، بهذا أخبرتني الوالدة الكريمة حفظها الله.

ولي أبيات نظمتها منذ مدة رأيتها مناسبة لختم هذا المقال خاصة الأخطار محدقة بالأمة والهدم يتهدد مسرى رسول الله والتبعة على المسلمين ثقيلة وعلى الصالحين منهم أثقل وعلى الدعاة المصلحين أثقل وأثقل:  

أضاع الفجر منا يا أخانا *** لترثينا الملائك في سمانا

ونعصي الله أول كل يوم *** لنُحرم من ثواب قد غشانا

ولا نحظى برؤية وجه رب *** وقد ضلَّت عن الحُسنى خطانا

فهل من صحوة تُحيي قلوبا *** وتُرضي في العُلا ربا هدانا

وتهدي أمة ضلَّت زمانا *** فذاقت من أعاديها الهوانا

فإن لم نستطع تأديب نفسٍ *** فهل نقوى نؤدِّبُ من سوانا  

اللهم نبِّهنا إذا غفلنا، وأحي قلوبنا إن ماتت، وخذ بأيدينا كلما تعثرنا في الطريق أو تهنا في المتاهة، وارزقنا قلوبنا دوام الهداية، وارزقنا زكاة الهداية بهداية الناس، واجعلنا من عبادك الخُلَّص الأنقياء، و ألحقنا بالنبيين والشهداء غير مبدِّلين ولا مغيِّرين. اللهم آمين