الطبيعة الحركية

       ظواهر خطيرة :

إن ضعف الطبيعة الحركية لدى الجمهرة الكبرى من دعاة الإسلام ظاهرة شائعة في حياة الدعوة، وبالتالي خطيرة على حاضرها ومستقبلها؛ فهي تغلق دونها أبواب الانطلاق والتمكين، وتحول بين الاستفادة من كثير من الظروف والسوانح وتطبعها بطابع الرتابة والجمود ....وتفقدها أبرز خصائصها، وهي الحيوية والحركية والانقلابية .....

وإن مبادئ الإسلام الفكرية والتوجيهية تملك إمكانات التلقيح والتأثير فيما لو حملتها نفوس متوثبة ونهضت بها همة متحركة عالية .

والمجتمع _نعم هذا المجتمع -الذي كثيراً ما نتهمه بما فيه وبما ليس فيه، تهرباً من تكاليف العمل والجهاد، وتبريراً لتقصيرنا في مجالات البذل والعطاء إلى درجة أننا خدعنا أنفسنا إلى حد بعيد، وتسرب الشك واليأس إلى نفوس الكثيرين من دعاتنا أو كاد، وصدق فينا قول القائل: (كاد استماع الوهم يملأ أذني حسنة للتفاعل مع هذه الدعوة فيما لو تحركت الهمم وتحفزت، وأنا مع كل هذا لا أنكر أن العمل الإسلامي يواجه في هذا العصر خصومات وتحديات فوق ما يتصور الكثيرون ....ولكني أنكر أن يؤدي هذا العمل إلى تخاذل أهل الحق والمعركة الفاصلة لم تبدأ بعد ؟

كما أنني لا أنكر أن يكون هذا باعثاً على الفرار من الميدان في ساعة العسر حيث يلزم الكر دون الفر، ومواجهة التحدي بتحد أقوى وأشد: {الذين قال لهم الناس :إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ....}.

وأود أن أشير هنا إلى أن المحن والشدائد يجب أن تبعث في النفوس معنى الإصرار على الحق والثبات ...كما ينبغي أن تدفع إلى مراجعة الأخطاء وتعبئة القوى على الاستفادة من التجارب والأحداث ....ولعل في إصرار نوح عليه السلام على دعوة قومه وحرصه على هدايتهم تسعمائة وخمسين عاماً، وما لقي خلالها من أذى واضطهاد من شأنه أن يشحذ الهمم فلا تكل، ويحفز النفوس فلا تمل: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب }.

إن المعركة التي يخوضها الإسلام في هذا الزمن تتطلب عناصر ذات نمط معين.. عناصر تعيش بالإسلام وللإسلام ... عناصر ديدنها هذا الدين وحده؛ فلنخجلن من أنفسنا ...ولنغارن على الإسلام دين الحق ودعوة الحق حين لا نكون من حملته على مستوى المسئولية في الوقت الذي نرى استماتة أهل الباطل وتضحية أهل الضلال وبذل الأفاكين في سبيل إفكهم وضلالهم: {أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون }.

إن الذين لا تغلي دماؤهم وتلتهب نفوسهم وتهتز مشاعرهم بالإسلام في كل لحظة من لحظات حياتهم لا يمكن أن يعقد عليهم الأمل، ويناط بهم الرجاء، ويتحقق على أيديهم انتصار الإسلام، ولنقف هنا قليلا نستخلص بواعث العقم، وضآلة الأثمار في حياة الدعاة والعاملين .....

القلب مركز التفاعل  :

وفي اعتقادي أن القلب هو مركز الثقل الذي يتم فيه تفاعل الداعية مع كل ما يرده من توجيهات وتشريعات ... حتى الأفكار فإن للقلب شأنا؛ ففي استساغتها ومشاركة العقل في تذوقها: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.

والإيمان هو ثمرة هذا التفاعل، وهو بالتالي وقود الحركة والحيوية والإثمار ...وما لم تستمر عملية التفاعل هذه فإن الحركة والحيوية ستنعدمان تباعاً إلى أن تصاب الطبيعة التنفيذية بالشلل والعقم نهائيا...

ولذلك كان القلب بحاجة إلى عناية فائقة ونصيب من الاهتمام كبير، وأول خصائص القلب أنه ذو حساسية مرهفة فكما أنه قابل للإشراق والضياء والصفاء؛ فهو قابل للإظلام والذبول والصدأ....من هنا كان الواجب والداعية أن يعنى بقلبه فلا يهمله ..والعناية بالقلب يجب ألا تفتر ساعة من ليل أو نهار حفاظاً  على إشراقه وبهائه ونقائه ومصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن للقلوب صدأ وجلاؤها الاستغفار ).   

ودعاة الإسلام أولى من سواهم بالاهتمام بقلوبهم لأنهم أكثر تعرضاً لمكائد الشيطان، وقلوبهم أشد حاجة إلى الإشراق، وهي جهاز الإرسال، ومركز الإشعاع لديهم ...وفي حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإنسان عيناه هاد ....وأذناه قمع ولسانه ترجمان ...ويداه جناحان ورجلاه بريد ...والقلب منه يملك ...فإذا طاب والملك طابت جنوده ).

والعناية بالقلب ينبغي أن تكون مستمرة دائمة، استعدادا لكل طارئ خبيث، أو وافد مضل؛ لأن الشيطان يسري من ابن آدم مسرى الدماء ...ولا يجلو القلوب كإخلاص العبادة، وعلى الأخص ناشئة الليل ...وعمق التبصر والتدبر لآيات الله وخاصة عند الصباح (إن قرآن الفجر كان مشهوداً)والبكاء والتبتل في محراب الله ....ودوام التفكير بالموت والاستعداد له وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول :(لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ).

والقلوب كذلك عرضة للقسوة واللين......فالطاعة تكسبها ليناً وإرهاقاً والمعصية تزيدها قسوة وجفافاً: { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة }.{بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }......ورحم الله ابن المبارك إذ يقول :

رأيت الذنوب تميت القلوب          وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب          وخير لنفسك عصيانها

ولقد بين لنا الداعية الأول صلى الله عليه وسلم كيف يتم تفاعل القلوب مع ما يفيد إليها من خير أو شر فقال: (تعرض الفتن على القلوب مع كالحصير عوداً وعوداً فأي قلب أشربها نكت فيها نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين :على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مرباداً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً.......)

فعلى الداعية أن يترصد قلبه باستمرار .....يراقب حركاته ويسجل تصرفاته ....ولا يتساهل حتى مع الوسوسة الخافتة والشعور الخفي ....ولا يقولن أنها من التوافه الصغيرة؛ فالصغير الحقير إذا كثر واستمر أنذر بخطر كبير ....وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول :(إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله :

لا تحقرن صغيرة                  إن الجبال الحصى

وقال آخر :

لا تحقرون صغيراً في مخاصمة           إن البعوض تدمي مقلة الأسد

فقلب الداعية ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية تنعكس عليه مبادئ الإسلام .ينفعل بها وتنفعل به .... ليسوقها بعدئذ إلى الأعضاء والجوارح مجموعة رفيعة من الصفات الكريمة والأخلاق الفاضلة. وبذلك لا يبقى الإسلام بالنسبة للداعية مجرد نظريات وإنما يأخذ صوره العملية الحسية في حياته وواقعه ..

وإن مما يساعد الداعية  على التفاعل مع الإسلام وقوفه أمام مبادئه وأحكامه وتشريعاته موقف المقصود بالخطاب المعني بالأمر، وهذا من شأنه أن يكسب المتلقي فاعلية التأثير المباشر والتفاعل السريع ...وبذلك تصبح علاقة الداعية بالإسلام علاقة جندية وقيادة وأمر وتنفيذ .......

والحقيقة أن تلقي الداعية لآيات الله ومبادئ الإسلام على هذا النحو وبهذه الكيفية من شأنه أن يكسب حياته طعماً جديداًً يجد حلاوته في كل معنى من معاني الإسلام .......

العقل مركز القيادة :

وإن مما يبعث الداعية -كذلك -على التفاعل مع دعوته وانفعاله بها وبالتالي انطلاقه في شتى المجالات والميادين نضوج فكره، وعمق فهمه، وسعة ثقافته؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه .....وكثيراً ما يحدث أن يتخاذل ضعفاء الثقافة من أهل الحق أمام المثقفين من أهل الباطل ...

وكما أن الإنسان يتفاعل مع القلب فيما يرده من خير أو شر فالقلب كذلك يتفاعل مع العقل فيما يحمله من مفاهيم وأفكار ....ولفتات القرآن العقلية إلى مشاهدة الكون والحياة تؤكد قيمة التفكير والتصور في السلوك الإنساني ...ولذلك أسقط الإسلام الحساب عن المجنون والمعتوه وفاقد العقل ..... وعناية الداعية بقلبه دون عقله ستجرده - بدون شك - من أقوى أسلحته وأبعثها على انطلاقه وانفعاله، كما أن عنايته بعقله دون قلبه ستفقده أهم عوامل الاستقرار والاطمئنان والثبات، وشخصية الداعية لا يمكن أن تبلغ درجة الكمال ما لم يتحقق صلاح القلب والعقل معاً........

وكما أن على الداعية أن يهتم (بالعبادة والمراقبة وذكر الموت والذكر وسواها من الرياضات الروحية )فإن عليه كذلك أن يهتم (بالتفقه والمطالعة والخطابة والكتابة وغيرها من النشاطات الفكرية ).

والامتلاء الفكري من شأنه أن يجعل الداعية جهاز إرسال لا يتوقف ....أما الذين يحسون بخوائهم الفكري فإنهم يتحاشون المجتمعات والناس، ويتهربون من المسئوليات ...وبالتالي تموت فيهم الطبيعة الحركية وينعدم الإثمار والعطاء ....

وحاجة الداعية إلى السلاح الفكري في العصر الحديث حاجة ملحة، لا يمكن الاستغناء عنها أو إهمالها؛ فالإسلام اليوم يعيش في وسط يموج بالاتجاهات والمذاهب الفكرية والفلسفية ... ويجدر بالدعاة أن يكونوا موضوعيين ومنطقيين .....وليس من مصلحة الإسلام في شيء مواجهات التحديات الفكرية بالعواطف الفارغة من الكلام والخطب .....بل إن الواجب مقارعة الحجة بالحجة، ومقارنة الفكر بالفكر : (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ...)

وعل الداعية أن يرجع إلى القرآن الكريم والسيرة النبوية يتحسس فيهما الأساليب العقلية البليغة التي كان يواجه بها الإسلام خصومه الجدليين .

وصفوة القول أن الداعية يكون في إعداد وتكوينه على مستوى ما تتطلبه الحركة اليوم ...قوة في الروح، ومتانة في الفكر ,...... وسموا في الخلق ... وبذلك يمكن أن يتحقق التفاعل بين الدعوة وبين الناس .

منقول بتصرف من كتاب "مشكلات الدعوة والداعية للدكتور فتحي يكن  رحمه الله.