ممدوح الولي

رغم الخطاب الدعائي للنظام المصري خلال الأشهر الأخيرة بالاتجاه إلى مساندة القطاع الخاص، بعد سنوات من تغول الجهات التابعة للدولة في الهيمنة على الأنشطة الاقتصادية، إذا بالتصرفات الحكومية تأخذ منحى معاكسا، بإعادة التوريد الإجباري لمحصول الأرز من قبل المزارعين إلى جهات حكومية، ومنع تخزين الأرز وتغليظ عقوبات المخالفين للتوريد الإجباري وللتخزين إلى حد المصادرة.

في عودة إلى أساليب التحكم في تجارة المحاصيل الحقلية، والتي كانت سائدة خلال الستينات من القرن الماضي، وتم إيقافها أواخر عام 1991 مع الإتجاه إلى تحرير القطاع الزراعي والأخذ بآليات السوق، وكانت السلطات المصرية قد انتهجت نفس مسلك التوريد الإجباري لمحصول القمح، في نيسان (أبريل) من العام الحالي، وغلظت العقوبات للمخالفين للتوريد الإجباري إلى حد مصادرة الكميات المضبوطة إلى جانب الغرامات المالية.

وبينما يستعد المزارعون المصريون لحصاد محصول الأرز أواخر شهر  أغسطس الحالى، والإستفادة من ارتفاع أسعار الأرز بالمحلات التجارية والتي وصلت لحوالي عشرين جنيها للكيلو المعبأ، كي تعوضهم عن ارتفاع تكاليف الإنتاج من عمالة ومبيدات للحشائش وأسمدة ونقل، كما تعوضهم جزئيا عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات عموما.. إذا بوزارة التموين تعلن عن إلزام المزارعين بتوريد طن عن كل فدان، بسعر 6600 جنيه للطن من النوع رفيع الحبة و6850 جنيه للطن من النوع عريض الحبة الأكثر قبولا لدى المستهلكين، واعتبار عدم التسليم لكمية الأرز المقررة عن الفدان مخالفة تموينية، تلزم المخالف بسداد عشرة آلاف جنيه عن كل طن لم يتم توريده، مع عدم صرف الأسمدة والمبيدات المدعمة لكافة أنواع الزراعات التي يزرعها، وعدم السماح له بزراعة الأرز بالعام المقبل.

المصادرة لكميات التخزين المضبوطة

واستفادت الوزارة من الخبرة السلبية التي حدثت مع من لم يوردوا القمح قبل أشهر قليلة، والذين تم عمل محاضر لهم بالإتجار غير المشروع بالقمح ومصادرة الكميات المضبوطة، وحتى يسترد المزارع باقي الكمية التي تزيد عن كمية التوريد التي كانت مطلوبة منه، فعليه أن يتنازل عن كمية القمح التي كانت مطلوبة منه بلا مقابل.

واستفادت وزارة التموين بالجو العام البوليسي بالبلاد، لتصدر باليوم التالي قرارا آخر بحظر تخزين الأرز الشعير في مواقع تخزين غير معتمدة، وفي حالة ضبط كميات أرز شعير محلي في مواقع تخزين غير معتمدة، تعتبر سلعة مجهولة المصدر وفقا لقانون صدر في مارس الماضي بحظر تداول السلع الغذائية مجهولة المصدر، وعقاب المخالفين له بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر وبالغرامة المالية، وفي جميع الأحوال يتم ضبط السلع الغذائية موضوع المخالفة والحكم بمصادرتها.

ورغم صدور القرار منذ الثالث والعشرين من أغسطس، فلم يصدر أي رد فعل معارض من قبل نقابات الفلاحين المتعددة، أو من نقابة الزراعيين، أو من لجنة الزراعة بالبرلمان، رغم انخفاض سعر التوريد الذي حددته الحكومة عن الأسعار السائدة بالأسواق، والتي يعرض القطاع الخاص شراء الأرز بها.

كما يقل عن أسعار الأرز بالأسواق الدولية والتي شهدت انخفاضا عن الذروة التي بلغتها خلال شهر مايو الماضي، ليواصل الأرز التايلاندي والفيتنامي الإنخفاض خلال الشهرين التاليين حتى بلغ 418 دولارا للطن من الأرز التايلاندي بنسبة كسر خمسة بالمائة.

والذي يكلف الحكومة في حالة استيراده إلى جانب السعر نولون الشحن والتأمين على البضاعة، بينما يلتزم المزارع بتوصيل الكميات المطلوبة منه إلى أماكن التجميع على نفقته، بعد ارتفاع أسعار السولار مؤخرا مما زاد من تكلفة النقل.

من الاكتفاء الذاتي إلى الاستيراد  

     ورغم أن قرار التوريد الإجباري يتعارض مع سياسة التحرير الإقتصادي التي يطالب كلا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مصر بها، كشرط للاستمرار في إقراضها، إلا أن كلتا المؤسستين تركزان على جوانب أخرى حاليا مثل سعر الصرف وتقليل الدعم، كما أن رضاء الدول الغربية صاحبة نسب التصويت العالية بالمؤسستين عن النظام الحاكم، يجعله مطمئنا إلى أنه سيحصل على القرض الجديد، مهما ضغط على القطاع الخاص الصغير المتمثل في صغار المزارعين.

لأن المؤسستين أكثر اهتماما بالقطاع الخاص الكبير حجما، وفي مسألة إجبار صغار المزارعين على التوريد الإجباري، فإن شركات التجارة بالأرز مستفيدة من تقليل المعروض بالأسواق، كي تستمر الأسعار المرتفعة محليا للأرز كما هي، كما أنها تتحين الفرصة لتصدير كميات من الأرز المصري المشهور بمذاقه وسعره الأعلى بالخارج من الأرز الهندي والفلبيني طويل الحبة (البسمتي)، مما جعل التهريب إلى السودان وليبيا وبلدان الخليج وسوريا أمرا شائعا.

وظل الأرز المصري يمثل محصول الحبوب الوحيد الذي يحقق اكتفاءا ذاتيا، مع بقاء كميات متاحة للتصدير، خلال التسعينات من القرن الماضي وحتى عام 2008، حين تم حظر التصدير لتحقيق توازن للسعر بالأسواق المحلية في ظل الأزمة المالية العالمية، وهكذا انخفضت كميات التصدير بالسنوات التالية حتى تلاشت ما بين عامى 2017 وحتى 2020.

وبدأت واردات الأرز تتزايد تدريجيا، لتشهد البلاد عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي منذ عام 2016 والذي قلت نسبته بالسنوات التالية، من 94 في المائة عام 2017 إلى 91 في المائة بالعام التالي ثم إلى 76 في المائة عام 2019، مع ارتفاع الكميات المستوردة إلى 976 ألف طن اقتربت قيمتها من السبع مليارات من الجنيهات، ورغم انخفاض كميات التوريد عام 2020 فقد استمر عدم تحقيق الإكتفاء الذاتي مستمرا.

ويمثل الأرز جوهرة المائدة لدى الأسر المصرية، حيث إنه قاسم مشترك بوجبة الغذاء مع باقي أنواع اللحوم والدواجن والأسماك، بل إن بعض المناطق كمحافظة البحيرة تتناوله بالثلاث وجبات لما يمده للجسم من طاقة، مطلوبة للعمالة الزراعية اليدوية المنتشرة بالمحافظة وغيرها من محافظات الوجه البحري شمال اليلاد، ومن هنا فإنه من الأسباب الرئيسية لإقبال المزارعين على زراعته هو توفير مخزون من الأرز يكفي استهلاك أسرهم على مدار العام.

ومن هنا يستمر الإقبال على زراعته رغم وجود محاصيل صيفية منافسة له مثل الذرة والقطن وعباد الشمس وفول الصويا، نظرا لقلة فترة زراعته التي تستغرق 135 يوما، وتتركز زراعته بمحافظات الدلتا بالشمال المجاورة للبحر المتوسط، حيث يتسبب استخدامه لكميات كبيرة من مياه الري في كونه محصول استصلاحي لغسل التربة من الأملاح، ومنع زحف مياه البحر إلى الدلتا ومياهها الجوفية.

إلا أن كبر استهلاكه للمياه كان سببا في تقليل السلطات المساحات المزروعة منه، والتي كانت تتخطى 1.5 مليون فدان في بدايات سنوات الألفية الجديدة الى 859 ألف فدان عام 2017-2018، إلا أن الكثير من المزارعين يخالفون التعليمات الحكومية بتقليل مساحات زراعته، مما يعرضهم لدفع غرامات مالية، ولهذا وصلت مساحة زراعته إلى مليون و189 ألف فدان عام 2019-2020.

الأمر الذي دفع الجهات البحثية للسعي نحو استنباط بذور أقل احتياجا للمياه، وبالفعل تم استنباط أصناف قللت استهلاك المياه من عشرة آلاف متر مكعب سابقا لحوالي 6500 متر مكعب، وما زال البحث جاريا لتقليل كمية استهلاك المياه في ضوء مشكلة السد الإثيوبي والنقص الحاد المتوقع لمياه الري في مصر، والتكلفة الكبيرة لاستيراد كميات ضخمة منه للاستهلاك المحلي في ظل ندرة أخرى بالنقد الأجنبي.