أشرف الفار

من العجيب أن يفجر حدث رياضى روتينى ذلك الجدل الكبير. ويتجلى فيه ذلك الكم الهائل من الاختلافات القيمية والأهواء الأخلاقية، بل يستدعى صراعات حضارية، وتضادات تاريخية، وتحضره تجاذبات سياسية، ومعارك اقتصادية، ويصبح الإعلام ميدان المعارك الأكبر، وتغدو المنصات على اختلافها كتائب تعلن الولاءات، وتنفذ الهجمات والدفاعات.

من العجيب أن يفجر تنظيم دولة إسلامية عربية لفعالية كأس العالم لكرة القدم كل هذه التجاذبات، لكن الشأن- كما هو الحال دومًا- فرصة للتدبر، وخير لا يجوز لمؤمن أن يجهل فضله، أو يتجاهل جزئياته ومكوناته. وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد روى مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه حديث: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له.}

وفي حديثنا يشمل الحدث ما بشر به الحديث النبوى الشريف، يشمل الشكر، ويشمل الصبر، يشمل السراء، ويشمل الضراء،  ويشمل الفهم وعمق الإدراك، ويشمل غير ذلك مما يستوجب في نهاية المطاف مزيد شكر ومزيد صبر ومزيد عمل. 

إن الحضارة الغربية الحديثة ترفع كثيرًا من الشعارات، وأغلب هذه الشعارات براقة جذابة، تستهوى العقول والأفئدة، ولا يملك الناس إلا تقديرها والإعجاب بها، بل الاستجابة لها، والتضحية بالكثير من أجل الاستمتاع بها في بلادهم أو في مواطن هذه الحضارة المنادية والملتزمة بها. فالحرية والمساواة، واحترام الحقوق المصانة، مثل حقوق الإنسان السياسية والدينية، وحقوق التقاضي والعدالة، وحقوق الحصول على الحياة الكريمة، وغيرها من الحقوق عامة، كذلك قيم المساواة والتعايش السلمى في المجتمع الواحد، والمحافظة على البيئة وسلامتها، وحقوق الانتفاع المتوازن والمتساوي بها، وحقوق الحيوان والحيوات البرية عمومًا، كل ذلك من الأمثلة الرائعة على تلك الشعارات. 

والحق أن حضارتنا الإسلامية تتضمن أضعاف هذه القيم، وتملك من الأخلاق والمبادئ ما يتضاءل أمامه بريق هذه الحضارة الغربية الزائف، وجمالها الخادع، فكل خير أعلنته الحضارات كلها مجتمعة على طول التاريخ البشرى وعرض الكوكب الأرضى- إنما هو جزء يسير من عطاء حضارتنا الإسلامية. وأعظم ما تتميز به حضارتنا أن كل ما فيها من خير وبر إنما هو للبشر كلهم، ليس لأحد كائنا من كان تميز فى حقوق، أو أولوية فى عطاء، إنما {رحمةٌ للعالمين} {هدى للناس} {ولقد كرمنا بنى آدم} إنها حضارة لا تمنع خيرها عن أحد.

وفضلًا عن ذلك فإنها حضارة وضع قيمها وأخلاقها وأصولها ومبادئها رب الناس، ملك الناس، إله الناس، فجاءت على صورة من الكمال والعلو والمجد لا يجاورها في ذلك غيرها، ولا يقترب. فهي حضارة ربانية المصدر، ربانية التوجه، شاملة لخيرى الدنيا والآخرة، عامة لكل البشر، واقعية فيما تطلب، طموحة مستعلية بالإنسان فيما تهدف، متوازنة فى كل أمورها، متوازنة فى تلبية كل الاحتياجات الفردية والجماعية، لا يطغى فيها جانب على جانب، ولا تطغى فيها فئة على فئة، ولا فضل فيها إلا لأهل الفضل الذين استحقوا منزلتهم بجهد صحيح فى الاتجاه الصحيح.

وفرق كبير جدًا بين حضارتين، إحداهما ترفع الشعارات البراقة، لكنها تسقط عند كل اختبار، فهى الحضارة التى قتلت الملايين من البشر بكل ألوانهم ودياناتهم- حتى المسيحيين مثلهم- ولا زالت تمارس هذه الجرائم حتى الساعة! حضارة سرقت وتسرق كنوز الغير، وتتركهم فقراء نهبًا للجوع والفقر والمرض والفساد بعد أن نهبتهم وفرضت عليهم- بالقهر والتعسف- من النظم ما يكفل استمرار هذا النهب وحماية المجرمين، حضارة تنشر الخراب فى الأرض، وتحمى الفاسدين القتلة المجرمين الذين ينفذون خططهم. حضارة تستقوى على الضعفاء العاجزين، وتجبن عن كل ذى قوة مثلهم غشوم، حضارة تحارب فطرة الله، وتفرض على الناس أن يحاربوا الله معها. تفعل كل هذه الجرائم ثم تتبجح بترديد مثل هذه الشعارات، وترفع لها اللافتات الكاذبة.

إنها الحضارة الحديثة، الحضارة التى أعلنت الحرب على الله، واستكبرت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها. خدعهم ما وفقهم الله ووهبهم من علم ومخترعات، واستكبروا وأسكرهم ما سرقوا من المال الحرام، وغرهم ما سفكوا من الدم الحرام، وأطمعهم أن حضارة الإسلام قد دالت دولتها، وغاب فرسانها، وزالت قوتها، فزاد التبجح، وظهرت الأحقاد. إنها حضارة لا تستطيع قيادة البشرية إلى بر الأمان، ولا تستحق، إنها هى نفسها الخطر الأكبر على الجنس البشرى، بل على الكوكب الأرضى كله.

إن حضارة لا تحتمل الاختلاف، ولا تقبل الآخر، ولا ترضى بغير قيمها المزيفة جديرة أن تنهزم، وأن تنحى جانبًا، ولا يحتاج الأمر إلا أن ينهض أصحاب الحق من سباتهم، وأن يدركوا مكانتهم، ومهمتهم، ونفاسة ما فى أيديهم. ثم ينطلقوا يدعون الناس إلى هذا الخير، ويصفون لهم ما فيه، ليس عليهم إلا البيان، البلاغ، إعلام الناس بديننا، وجماله، وعظمته. فهل من مجيب!