لقد تلفتت مصر حين جد الجد وتحرج الأمر، ولم يعد الجهاد هتافًا وتصفيقًا، بل عملًا وتضحيةً، ولم يعد الكفاح دعايةً وتهريجًا بل فداءً واستشهادًا.

لقد تلفتت مصر فلم تجد إلا الإخوان المسلمين حاضرين للعمل، مهيَّئين للبذل، مستعدين للفداء، مدرَّبين للكفاح، معتزمين الاستشهاد.

لقد تركوا غيرهم يخطبون ويكتبون، أما هم فذهبوا فعلًا إلى ساحات الجهاد، ولقد تركوا غيرهم مجتمعين وينفضُّون، أما هم فقد حملوا الحق ومضَوا إلى تنفيذه صامتين.

غيرهم يحاول أن يأخذ طريقه للعمل، ويحاول أن يبدأ بالفعل بالتدريب، أما هم فكانوا عدة مصر المهيَّأة. عدة مصر الحاضرة. عدة مصر العاملة. عدة مصر التي أعدت نفسها للجهاد، فلبَّت منذ اليوم الأول داعي الجهاد.

ومع بروز هذه الحقيقة، فإن بعض السفهاء شرعوا أقلامهم ليحاربوا الإخوان المسلمين، وبعض التافهين شرعوا ألسنتهم للنيل منهم، ومن عجب أن تكون دعوى السفهاء أن الإخوان يتحدثون والمعركة ثائرة في الميدان. الميدان الذي لم يقتحمه حتى اللحظة إلا الإخوان!

إن الصغار المهزولين لا يدركون روح الإسلام التي يسير على هديها الإخوان.

إن أرواحهم الهزيلة الضئيلة المدغولة لا يمكن أن ترتفعَ وتتسعَ لتشرف على تلك الآفاق العالية.

إنهم يؤمنون بأن «لا كفاح بلا عقيدة، وأن أصحاب العقيدة هم الذين يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع»، وإن الواقع العملي يؤيد هذه الحقيقة، وإن الإخوان هم وحدهم اليوم في الميدان؛ لأنهم هم وحدهم أصحاب أضخم عقيدة تدفع بالمؤمنين دفعًا إلى الميدان.

إن الوطنية الحارة المتحمسة قد تدفع بأصحابها إلى النضال، وإن العدالة الاجتماعية الثائرة قد تدفع بأصحابها إلى الكفاح، ولكن هذه أو تلك لا تزيد على أن مطلبها قريب، وأفقها محدود.

أما أصحاب العقيدة في الله – على طرق الإسلام – فمطالبهم أكبر وآفاقهم أِشمل.

إنهم يطلبون العزَّة للإنسان كافة، فهم أشد حماسةً للوطن من حماسة الوطنيين المحدودين، وإنهم يطلبون العدالة في كل مجال، فهم أشد حماسةً للعدل الاجتماعي من كل إنسان.

ثم إن لهم بعد هذا وذلك أُفُقَهم الأعلى والأكرم والأشمل؛ لأنهم يعملون لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولأنهم يصلون أنفسهم بالله في كل خالجة؛ ولأنهم يرجون عند الله أكبر مما ينفقون في سبيل الله. أكبر من المال وأكبر من النفس، وأكبر من الحياة.

إنهم جنود الفداء كلما دعاهم داعي الفداء، وحيثما دعاهم داعي الفداء.

إنهم باعوا أنفسهم لله منذ اشترى نفوسهم الله لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلونَ فِي سَبِيْلِ اللهِ فَيََقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِيْ التَّورَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ (التوبة: 111)

وما كان لسفاهة سفيه، ولا للمزة جاهل أن تنال أصحاب عقيدة في الله، حاربتهم ملة الكفر كله، وحاربهم الاستعمار مجتمعًا، وحاربتهم الإقطاعية متكتلة، وحاربتهم الرأسمالية ظالمة، وحاربتهم الشيوعية متجنية، وحاربهم الخبث والفساد والشر والرذيلة جميعًا، ثم ارتدت عنهم جميعًا. ارتدت محطمةً خائبةً خاسرةً؛ لأنها كلها من قوى الأرض، وهم عائذون بقوة السماء؛ ولأنها كلها من عالم الفناء وهم عائذون بعالم البقاء.

لقد صحت الأمة الإسلامية بعد طول سبات، ولو كانت إلى فناء وموت ما استيقظت من سبات، ولقد صحت بعد نوم طويل فليس من سنة الحياة أن تنام من جديد.

لقد صحت لتحيا، وصحت لتنمو، وصحت لتنتفض عنها الشوائب والأخلاط.

وإذا كانت الأمة الإسلامية لا تزال تتعثر، وما تزال تكبو، وما تزال تضطرب. فتلك هي اختلاجة الحياة الجديدة، لا سكرات الموت، ولا صراعات الداء.

تلك هي علائم الصحوة واليقظة بعد نوم طويل وهمود، والمستقبل لها، والدلائل كلها تشير إلى هذا المستقبل.

إنه لا كفاح بلا عقيدة، ولا حياة بلا عقيدة، ولا إنسانية بلا عقيدة، ولقد كنا نقولها كلمات فيتخذها السفهاء الصغار لعبًا ولهوًا. أما اليوم فتقولها الوقائع، وتقولها الأحداث، فإذا تشدَّق لسانٌ تافهٌ، وإذا تلاعب قلمٌ هزيلٌ، فتلك هموم التافهين المهزولين (*) في كل زمان وفي كل مكان