ممدوح الولي
حفل تقرير صندوق النقد الدولي حول الاقتصاد المصري الصادر في العاشر من الشهر الحالي، والذي تضمن توقعات الصندوق لأداء الاقتصاد خلال السنوات المالية الخمس المقبلة، بالعديد من الأمور الهامة؛ أبرزها توقعه استمرار العجز التجاري وارتفاع قيمته خلال السنوات المالية الخمس المقبلة، بسبب تفوق الزيادة في الواردات السلعية عن الزيادة في الصادرات السلعية، واستمرار زيادة مدفوعات فوائد دخل الاستثمار للخارج خلال تلك السنوات الخمس، والتي أصبحت تشكل رقما سنويا مهما بالمدفوعات الدولارية بلغ 17 مليار دولار في العام المالي الحالي، وتوقع الصندوق زيادته إلى 21 مليار دولار بعد خمس سنوات.
ورغم توقع الصندوق زيادة تحويلات المصريين العاملين في الخارج من 34 مليار دولار في العام المالي الحالي، إلى 42 مليار دولار بعد خمس سنوات، فقد تسبب كبر قيمة العجز في الميزان التجاري والعجز في ميزان دخل الاستثمار، في استيعاب الفائض المستمر في تجارة الخدمات؛ من سياحة ودخل لقناة السويس وتحويلات المغتربين، ليحقق ميزان المعاملات الجارية عجزا مستمرا تخطى عشرة مليارات من الدولارات سنويا، بما يشير بشكل واضح لاستمرار الفجوة التمويلية الخارجية خلال السنوات المالية الخمس المقبلة.
145.5 مليار لتكلفة الدين بثلاث سنوات
وكان من أبرز ما جاء في التقرير استعراضه لقيمة خدمة الدين الخارجي خلال السنة المالية الحالية (2022/2023) والعامين الماليين المقبلين، حيث بلغت تكلفة الاقتراض الخارجي خلال السنوات المالية الثلاث من أقساط وفوائد 154.5 مليار دولار، موزعة ما بين خدمة دين متوسط وطويل الأجل بقيمة 68 مليار دولار، بنسبة 44 في المائة من الإجمالي، و86.5 مليار دولار خدمة دين قصير الأجلـ بنسبة 56 في المائة من الإجمالي.
وتوزعت خدمة الدين ما بين 48.9 مليار دولار في العام المالي الحالي الذي ينتهي بعد ستة أشهر، و51 مليار دولار في العام المالي المقبل، و54.6 مليار دولار في العام المالي 2024/2025. وتوقع التقرير أن تكون خدمة الدين في العام المالي الحالي ما بين 20.7 مليار دولار للديون متوسطة وطويلة الأجل، و28.2 مليار دولار للديون قصيرة الأجل.
والغريب أن رقم خدمة الدين الخارجي في السنوات المالية الثلاث البالغ 145.539 مليار دولار، يكاد يتساوى مع قيمة الدين الخارجي المصري في نهاية سبتمبر والبالغة 154.980 مليار دولار، في حين ستستمر مصر في سداد أقساط القروض متوسطة وطويلة الأجل حتى عام 2071، بما يشير إلى كبر قيمة أقساط وفوائد الدين الخارجي.
وبينما كشف تقرير الصندوق عن توزع أقساط قرضه الأخير لمصر البالغ ثلاثة مليارات دولار خلال أربع سنوات، عبر قسطين في كل سنة قيمة كل منهما 347 مليون دولار، بإجمالي حوالي 700 مليون دولار سنويا، فقد أشار التقرير إلى بلوغ مستحقات الصندوق عن قروضه لمصر في العام المالي الحالي 2.2 مليار دولار، وفي العام المالي المقبل 5.4 مليار دولار، وفي العام المالي التالي 6.5 مليار دولار، أي بإجمالي 14.1 مليار دولار مستحقة للصندوق خلال السنوات المالية الثلاث، مقابل حصول مصر منه خلالها على 2.1 مليار دولار جديدة.
الملاذ بتجديد القروض وودائع الخليج
ويظل السؤال الأهم حول قدرة مصر على سداد تلك الأقساط والفوائد الضخمة، خلال السنوات المالية الثلاث، والتي تعادل قيمة الدين الخارجي حاليا، خاصة أن منها حوالي 26 مليار دولار تخص مؤسسات مالية وإقليمية، وحوالي 19 مليار دولار للدول المقرضة لمصر، وحوالي 12 مليارا للسندات الخارجية، لكن خطاب النوايا المقدم من كل من محافظ البنك المركزي المصري ووزير المالية إلى مديرة صندوق النقد في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي للحصول على القرض كشف الأمر، حين ذكر خطاب النوايا أن مصر قد اتفقت مع دول الخليج على بقاء ودائعها البالغة 28 مليار دولار في البنك المركزي، ضمن الاحتياطيات من النقد الأجنبي، لمدة أربع سنوات وحتى نهاية برنامج مصر مع الصندوق في سبتمبر 2026، بل إن تلك الودائع حسب خطاب النوايا المصري لن يتم شراء أسهم أو أصول مصرية بها خلال تلك الفترة، وبالتالي فسوف تنخفض المدفوعات التي ستقوم بها مصر للوفاء بتكلفة قروضها الخارجية، إلى جانب تعودها على تجديد قروضها قصيرة الأجل بشكل مستمر.
ومن هنا فقد توقع الصندوق انخفاض إجمالي الدين الخارجي المصري إلى 151.2 مليار دولار في نهاية يونيو المقبل، مقابل 155.7 مليار دولار في نفس الشهر من العام الماضي. وتوقع الصندوق زيادات محدودة في الدين الخارجي خلال السنوات المالية الخمس المقبلة، بالمقارنة لقيمته بنهاية العام المالي الحالي، بزيادة حوالي 200 مليون دولار فقط بنهاية العام المالي المقبل، وزيادة 2.7 مليار دولار بعد عامين، وبارتفاع 5.1 مليار دولار بعد ثلاث سنوات، وزيادة 3.5 مليار دولار بعد أربع سنوات مالية.
وهذ أمر مغاير لقيمة الزيادات في الدين الخارجي في السنوات المالية الست الأخيرة التي بلغ متوسطها السنوي 16.6 مليار دولار، مما يدعو إلى صعوبة تصديق تلك التوقعات لزيادات الدين الخارجي، خاصة وأن خطاب النوايا المصري قد أشار لوجود احتياج للتمويل الخارجي خلال النصف الأول من العام الميلادي الحالي بقيمة خمسة مليارات دولار، سيتم تمويلها بنحو ملياري دولار من مبيعات حصص من الشركات العامة لصناديق سيادية خليجية، و1.1 مليار دولار من قرض من البنك الدولي، وملياري دولار من بنك التنمية الصيني، و400 مليون دولار من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، و300 مليون دولار من كل من بنك التنمية الأفريقي وصندوق النقد العربي.
توقعات متفائلة بزيادة سريعة للاحتياطيات
فهل ستكون مبيعات أصول الشركات المصرية العامة هي كلمة السر في انخفاض زيادات القروض الخارجية بالسنوات المقبلة، خاصة وأن الصندوق قد توقع لتلك المبيعات للأصول تحقيق 4.6 مليار دولار في العام المالي المقبل (2023/2024)؟
لكن الصندوق توقع تراجع قيمة تلك المبيعات للأصول المصرية للصناديق الخليجية، إلى 1.8 مليار فقط في العام المالي التالي (2024/2025)، ثم بلوغها 200 مليون دولار فقط في العام المالي التالي، ثم بقيمة مائة مليون دولار فقط في العام المالي 2026/2027، ثم لا شيء في العام التالي (2027/2028)، مما لا يجعل بيع الأصول هي السبب الرئيس لانخفاض القروض.
ويدعو للحيرة أكثر توقع الصندوق لتلك الزيادات القليلة للدين الخارجي، رغم ما ورد في تقريره من بيانات عن عجز متوقع في ميزان الميزان المعاملات الجارية يفوق عشرة مليارات من الدولارات سنويا، إلى جانب توقعه زيادات ملموسة في الاحتياطيات من العملات الأجنبية في البنك المركزي خلال السنوات المالية المقبلة، لتصل إلى 37.1 مليار دولار في نهاية يونيو المقبل، مقابل 34 مليار دولار في نهاية ديسمبر الماضي، أي بزيادة 3.1 مليار خلال النصف الأول من العام الحالي، رغم بلوغ قيمة العجز بالفرق بين الأصول والالتزامات تجاه العالم الخارجي في المركزي 8.5 مليار دولار حتى نوفمبر الماضي.
وتوقع الصندوق ارتفاع الاحتياطيات إلى 47.2 مليار دولار في نهاية العام المالي المقبل، مستمرة في التصاعد إلى 51.2 مليار دولار في العام المالي التالي، ثم إلى 63.9 مليار دولار في العام 2025/2026، ثم إلى 77.8 مليار دولار في العام المالي التالي، ثم إلى 81.1 مليار دولار في العام المالي 2027/2028.
الاعتماد على الأموال الساخنة مرة أخرى
ويصبح التفسير الوحيد المتاح لإمكانية تحقق توقع الصندوق زيادات قليلة بالدين الخارجي، وحدوث طفرات بالاحتياطيات من النقد الأجنبي، هو توقعه زيادات بكلا من الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر (الأموال الساخنة)، حيث توقع زيادة صافي استثمار الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 9.7 مليار دولار في العام المالي الحالي مقابل 8.6 مليار دولار في العام المالي السابق، ثم ارتفاعه إلى 12.1 مليار دولار في العام المالي المقبل، وإلى 13.5 مليار دولار في العام المالي التالي، ثم إلى 14.7 مليار دولار في العام المالي 2025/2026 وإلى 16.3 مليار دولار في العام المالي التالي، ثم إلى 16.9 مليار دولار في العام المالي 2027/2028، متجاهلا النظرة المستقبلية السلبية لدى كل من وكالتي موديز وفيتش لتصنيف الاقتصاد المصري، والأثر السلبي لارتفاع أسعار الفائدة محليا على الاستثمار المحلى والخارجي.
كذلك توقع الصندوق بلوغ صافي تدفق الاستثمار الأجنبي غير المباشر، أي استثمار الحافظة أو ما يسميه البعض بالأموال الساخنة أو العصفور الطائر الذي يتحرك سريعا ما بين الأسواق بحثا عن العائد الأعلى، 6.1 مليار دولار في العام المالي الحالي الذي سينتهي بعد ستة أشهر، مقابل تدفق للخارج بلغ 21 مليار دولار في العام المالي السابق.
وظل الصندوق يتوقع صافي تدفق إيجابي للأموال الساخنة بلغ 7.3 مليار دولار في العام المالي المقبل، ثم ثمانية مليارات دولار في العام المالي 2024/2025، وإلى 7.5 مليار دولار في العام المالي التالي، ثم 8.5 مليار دولار في العام المالي 2026/2027، ثم إلى 7.8 مليار دولار في العام المالي 2027/2028.
وهي توقعات تخالف مجريات ما حدث في مصر خلال السنوات الماضية، من تذبذب أداء الأموال الساخنة ما بين صافي دخول وصافي خروج. ففي السنوات المالية الثماني الأخيرة كان صافي التدفق في أربع سنوات منها موجبا، وفي أربع سنوات سالبا، وذلك في السنوات المالية 2014/2015، وفي السنة التالية وعام 2019/2020 وعام 2021/ 2022.
ويعود تدفقها أو خروجها لأسباب محلية أحيانا، مثلما حدث مع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 حين خرجت، أو لأسباب خارجية مثلما حدث مع ارتفاع معدلات الفائدة في الأسواق الدولية مؤخرا أدى لخروجها، إلى جانب تحذير المسؤولين المصريين من عودة الاعتماد على الأموال الساخنة، التي تسبب خروجها الضخم خلال الربع الأخير من عام 2021 والربع الأول من العام الماضي في حدوث نقص شديد في العملات الأجنبية، نجم عنه عودة السوق السوداء منذ مارس الماضي وما زالت قائمة حتى الآن، وتسببت محاولة البنك المركزي في اللحاق بأسعارها إلى هبوط سعر صرف الجنيه أمام الدولار لمستويات غير مسبوقة تاريخيا، واضطراره للتضييق على الواردات مما أضر بالأسواق.
ومن هنا يصبح الاستناد إلى توقعات الصندوق أمرا غير قابل للتحقق بدرجة كبيرة، خاصة وأن تاريخ توقعات الصندوق مليء بالثغرات العديدة؛ بداية من إشادته بأداء بدول النمور الآسيوية قبيل انهيارها عام 1997، وانتهاء بتوقعات الصندوق بلوغ سعر الصرف في مصر مع اتفاق عام 2016 نحو 12 جنيها للدولار، وهو ما لم يحدث بالمرة بل أخذ اتجاها مخالفا بشدة.
كذلك الشك في تحقق ما ذكره التقرير من تسبب خفض قيمة سعر صرف الجنيه المصري في زيادة الصادرات المصرية، متجاهلا كون أكثر من 60 في المائة من مكوناتها مستوردة بأسعار عالية، ومتناسيا أثر زيادة سعر الفائدة السلبي على الصناعة المصرية وبالتالي على التصدير.
twitter.com/mamdouh_alwaly