حينما نتدبر الآيات التي وردت في مواضع عدة من كتاب الله عز وجل؛ والتي تتناول الخشية من الله، يتبين لنا مكانة وقدر ومنزلة الخشية كأحد أهم عبادات القلوب وعلامات الإيمان الصادق بالله تبارك وتعالى.

والتى اعتبرها الإمام ابن القيم أحد مدارج السالكين إلى الله رب العالمين، وأوردها تحت عنوان (منزلة الخوف).

فلننظر بقلوبنا ونعيش بأرواحنا مع بعض مواضع الخشية في كتاب الله تبارك وتعالى:

قال عز من قال:

– (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ﴿150 البقرة﴾

– (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ﴿3 المائدة﴾

– (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) ﴿44 المائدة﴾

– (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ﴿13 التوبة﴾

– (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَـٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ﴿18 التوبة﴾

– (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) ﴿21 الرعد﴾

– (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ﴿49 الأنبياء﴾

– (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ﴿52 النور﴾

– (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) ﴿37 الأحزاب﴾

– (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا) ﴿39 الأحزاب﴾

– (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ﴿11 يس﴾

وقد أورد الإمام ابن القيم في مدارج السالكين:

«وَمِنْ مَنَازِلِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ.

وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ، وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175] وَقَالَ تَعَالَى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40] وَقَالَ (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة: 44] وَمَدَحَ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون: 57] إِلَى قَوْلِهِ (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61].

وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ» قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا وَاللَّهِ بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا.

وَ ((الْوَجَلُ)) وَ ((الْخَوْفُ)) وَ ((الْخَشْيَةُ)) وَ ((الرَّهْبَةُ)) أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ.

وَقِيلَ: الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ.

وَقِيلَ: الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُهُ

وَقِيلَ: الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ.

وَ ((الْخَشْيَةُ)) أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ الْخَشْيَةَ لِلْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً».

فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ، وَالْخَشْيَةُ انْجِمَاعٌ، وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنْهُ، وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ.

وَالثَّانِيَةُ: سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ الْخَشْيَةُ، وَمِنْهُ: انْخَشَى الشَّيْءُ، وَالْمُضَاعَفُ وَالْمُعْتَلُّ أَخَوَانِ، كَتَقَضِّي الْبَازِيِّ وَتَقَضَّضَ.

وَأَمَّا ((الرَّهْبَةُ)) فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ.

وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ.

وَأَمَّا ((الْوَجَلُ)) فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ، وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يُخَافُ سُلْطَانُهُ وَعُقُوبَتُهُ، أَوْ لِرُؤْيَتِهِ.

وَأَمَّا ((الْهَيْبَةُ)) فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَالْإِجْلَالُ: تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ.

فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَفِي رِوَايَةٍ (خَوْفًا) وَقَالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ».

قال الإمام ابن الجوزي – رحمه اﷲ:

«من تفكَّر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيّقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يُوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه. (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ).»