من "حديث من القلب" للشهيد الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد العام السابق رحمه الله

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد، أيها الإخوان: فقد اهتمَّ الإسلامُ غاية الاهتمام بتوثيق عُرَى الأخوة الَّتِي تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حتى جعل الأخوَّةَ التي جمع عليها القلوبَ أصلاً من أصول الإيمان لا يتمُّ إلا بها، ولا يتحقق إلا بوجودها؛ بل جعلها أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ وأكملَ معانيه، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10) وقال صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ أَخو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ) (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَثَل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَل الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)؛ ولذلك كان من أركان بيعتنا الأخوَّة، وكان من أصول الإصلاح الاجتماعي الكامل الذي جاء به الإسلام: إعلانُ الأخوة بين الناس.

معنى الأخوَّة عند الإخوان المسلمين

قال الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله: "وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوبُ والأرواحُ برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابطِ وأغلاها، والأخوَّة أخت الإيمان، والتفرُّقُ أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وِحْدَةَ بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: من الآية 9) ..

والأخُ الصادقُ يرى إخوانَه أوْلى بنفسِه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكونَ بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، و(إِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ) (أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم) و(الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) (متفق عليه) ... ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71) وهكذا يجب أن نكون".

الأخوة عندنا دين

لم يزل الإخوان حريصين على تحقيق الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينهم، مجتهدين ألا يُعكِّر صَفْوَ علاقتهم شيءٌ، مدركين أن الأخوَّةَ في الدين من أفضل ما يتقربون به إلى الله زلفى، وملتمسين بالمحافظة عليها نيْلَ الدرجات العلى، ومن ثَمَّ يحرصون على مراعاة حقوقها التي تصفيها عن شوائب الكدورات ونزغات الشياطين، وقد جعل أهل العلم أقل درجات الأخوة أن يعامل الأخ أخاه بما يحب أن يعامله به.

ومن حقوق الأخوة

الصبر على خطأ الأخ حتى يرجع للحق، من غير تشهيرٍ به أو إشاعةٍ لزلاته، قال أبو الدرداء: "إذا تغيَّر أخوك وحال عما كان عليه فلا تَدَعْه لأجل ذلك؛ فإن أخاك يَعْوَجُّ مرةً ويستقيم أخرى"، وَقَالَ إبراهيم النَّخَعِيُّ: "لا تَقْطَعْ أَخَاك وَلا تَهْجُرْهُ عِنْدَ الذَّنْبِ، فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُهُ الْيَوْمَ وَيَتْرُكُهُ غَدًا"، وجاء في بعض الآثار: قال عيسى عليه السلام للحواريين: "كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا وقد كشف الريحُ ثوبَه عنه؟" قالوا: نستره ونُغَطِّيه، قال: بل تكشفون عورته! قالوا: سبحان الله! مَن يفعل هذا؟ فقال: "أحدُكم يسمعُ بالكلمةِ في أخيه فيزيدُ عليها ويُشِيعُها بأعظمَ منها".

وحتى حين تختلف بالإخوان الآراء فإن رابطةَ الأخوة تحميهم من الوقوع في الأعراض، أو إشاعةِ الشبهات، أو ترديد المفتريات، وهم يحفظون كلمةَ حكيم الفقهاء الإمام الشافعي رحمه الله: "الحُرُّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ، وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَه لَفْظَةً".

ومن حقوق الأخوة التي يدعو إليها الإخوان المسلمون: ما لخصه الفضيلُ بن عِياضٍ رحمه الله في قوله: "نَظَرُ الأخِ إلى وجه أخيه على المودَّةِ والرحمةِ عبادةٌ، فلا تصحُّ المحبةُ في الله عزَّ وجلَّ إلا بما شرط فيها من الرحمة في الاجتماع والخلطة، وعند الافتراق: بظهور النصيحة، واجتناب الغيبة، وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء، وارتفاع الوحشة".

وكان يقال: إذا وقعت الغيبَةُ، ارتفعتْ الأخوَّة. وما ألطف قول أحد السلف يخاطب أخاه الذي هجره:

هَبْنِي أَسَأْتُ كَمَا تَقُولُ *** فَأَيْنَ عَاطِفَةُ الْأُخُوَّة

أَوْ إِنْ أَسَأْتَ كَمَا أَسَأْتُ *** فَأَيْنَ َفَضْلُكَ وَالْمُرُوَّة

فليس من أخلاق الأخ المسلم في شيءٍ أن يلتمس أسبابَ العيب لمَن خالفه من إخوانه أو من غيرهم، أو أن يسعى في الانتقاص من فضله، أو التحقير من عمله وعطائه، وينتصحون بنصيحة الفاروق عمر بن الخطاب: "لا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا، وَلا يَكُنْ بُغْضُكَ تَلَفًا"، فلما سُئل: وكيف ذلك؟ قال: "إِذَا أَحْبَبْتَ فَلا تَكْلَفْ كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِالشَّيْء يُحِبُّهُ، وَإِذَا أَبْغَضْتَ فَلا تَبْغَضْ بُغْضًا تُحِبُّ أَنْ يَتْلَفَ صَاحِبُكَ وَيَهْلِكَ" (البخاري في الأدب)، وكان الحسن بن علي رحمه الله يقول: "لا تُفْرِطْ فِي حُبِّكَ، وَلا تُفْرِطْ فِي بُغْضِكَ، مَنْ وَجَدَ دُونَ أَخِيهِ سِتْرًا فَلا يَكْشِفْ" (عبد الرزاق).

ومن حقوق الأخوة: النصيحة بآدابها الشرعية: فلا تشنيعَ ولا تشهيرَ، ولا تجريحَ للأشخاص ولا للهيئات، ولا كشفَ لأسرار الناس، ولا اختلاقَ ولا كذبَ، ولا تبريرَ للخطأ، ولا مجاملةَ على حساب الحق، ولا رغبةَ في التَّشَفِّي ولا انتصارَ للهوى، بل هي نصيحةٌ أمينةٌ صادقةٌ، تَبْرَأُ بها الذِّمَّةُ، وتُؤَدَّى بها الأمانةُ، مع بقاءِ المودَّةِ ونَمَاءِ عاطفةِ الأُخُوَّة.

أخوَّتُنا أحدُ أسرار قوتنا

إن هذه الأخوةَ التي نذكِّر بحقوقها أيها الإخوان هي الصخرةُ التي تتكسَّر عليها موجاتُ المكرِ ومحاولاتُ النَّيْلِ من دعوتنا المباركة، وهي أول أسباب النصر ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: 62-64).

أيها الإخوان المسلمون..

لقد أعلنها نبينا صلى الله عليه وسلم واضحةً صريحة: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيث، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) (متفق عليه)، وفهم المسلمون الأولون رضوان الله عليهم من الإسلام هذا المعنى الأخويَّ، وأَمْلَتْ عليهم عقيدتُهم في دين الله أَخْلَدَ عواطفِ الحبِّ والتآلفِ، وأَنْبَلَ مظاهر الأخوة والتعارف، فكانوا رجلاً واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدة، فحقق الله لهم وبهم النصر والعز والتمكين.

فلْنستمسكْ بهذه الأخوة الخالدة التي تزول الدنيا ولا تزول، وتفنى الأيام وهي أبقى من الزمن، ولْنحرصْ على أداء حقوقها، واستشعار قيمتها، ولْنحافظْ على وِرْد الرابطة اليومي، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، والله أكبر ولله الحمد.