د. سيرين الصعيدي

نقف حيارى أمام الصمت العربي المريب اتجاه كل ما يحدث في غزة العزة، يقطعنا العجز وقلة الحيلة حول ما يجب أن نقدمه ونحن على بُعد مرمى حجر من بقعة في وطننا الحبيب تباد بكل ما تحمل الكلمة من معنى، دماءٌ وأشلاءٌ على مرأى ومسمع العالم وتواصل إسرائيل في دكّ غزة بكل أنواع الأسلحة وكأنها آوت إلى ركن شديد أمنت فيه على نفسها حتى من الشجب والاستنكار.

وكمسلم تربطني وتجمعني عدة صلات بغزة كأخوة البقعة الجغرافية فنحن نعيش في ربوع وطن واحد تكالب عليه الأعداء وخذلان الأشقاء والأصدقاء، وكمسلم تجمعني بهم عقيدة ومقدسات واحدة برغم بُعد المسافات، وكعربي تجمعنا العروبة بما تحمل من قيم كإغاثة اللهفان ونصرة المظلوم ومناصرة الضعيف، ومن ثم كإنسان تجمعنا رحم الإنسانية وتربطنا بميثاق أخوّتها، يتبادر لذهن أي غيور شريف ما دوري في معركة طوفان الأقصى، كمواطن فلسطيني أتقاسم معهم ظروف الاحتلال وكمسلم تجمعنا أخوّة الإيمان ووحدة العقيدة، وكعربي ننتظم في عِقد العروبة كجواهر ثمينة زاد من قيمتها عربية النبي الخاتم، وكإنسان يتغنى بمعاني الإنسانية من رحمة ومساواة وغيرها من الحقوق التي طالما أنفقنا الوقت والحبر والورق في ترويجها.

وكل الامتيازات السابقة التي تتمتع بها غزة وتعود بجذورها إليها من فلسطينية الهوية وارتباطها الوثيق في المسجد الأقصى إذ هي في بقعة شملها قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] وجزء لا يتجزأ من قبلة المسلمين الأولى، ومن ثم عروبتها التي تستنهض نخوة العربي الأصيل، ثمّ إنسانيتها في عالم طالما تشدق بضرورة احترام الإنسان كإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه ودينه، كل هذا تمتاز به غزة غير أنّ أيًّا من هذه الامتيازات لم تشفع لمدينة تكالبت عليها الأمم وسقطت أمام محنتها أقنعة الزيف والبهتان، وأمام أشلاء أبنائها انهارت معايير المتشدقين من أشباه البشر.

 

فغزة اليوم هي المعيار الحقيقي للدين وللوطنية والعروبة والإنسانية، ومن نكص عن نصرتها فهو دعيّ لكل ما سبق ولو تعلق بأستار الكعبة وصك قوانين الإنسانية، فموقفك مما يحدث في غزة يفصح عن حقيقتك، وما تقدّمُ الآن من دور في نصرة غزة يكشف معدنك، وإن كانت غزة اليوم فضحت حقائق العالم المزيفة المستترة، وكشفت أن جاهلية العرب الأولى أكثر نخوةً وشرفًا من عروبة اليوم مجتمعة، فالجاهلية الأولى اجتمعت لفك الحصار عن المسلمين في شعب أبي طالب، وجاهلية اليوم في أرض الحرمين مولد ومبعث النبوة تدعو لقمة طارئة بعد سقوط الآلاف من الشهداء، فكانت فعاليات مهرجان الرقص على أشلائنا مقدمةً على دماء الأبرياء.

 

وفي تباين المواقف وإحجام مواقف أخرى لا سيما من أصحاب صنع القرار تقف مذهولًا متسائلًا: ما دوري كمسلم بالكاد يملك زمام أمره نحو ما يجري في معركة طوفان الأقصى، وكيف أنصر المجاهدين وأنا أعزل عاجز قليل الحيلة ليس لي من الأمر شيء؟!

ومن هنا وجب علينا أن نعلم ونتيقن أن كلّ فرد يستطيع أن ينصر القضية ويقاوم بمكانه وإمكاناته وذلك من خلال ما يأتي:

أولًا: على كل منا أن يدرك أنه على ثغر من الثغور، فلا يُؤتى من قبله

فإن كنت - على سبيل المثال لا الحصر – مدرسًا؛ فقلوب وعقول طلابك ميدانُك فازرع فيها القضية وازرع فيهم الثوابت والقيم التي من خلالها وعليها يترعرعون فينشأ جيل واعٍ متوقد الفكر سليم القلب ينهض بنفسه وأمته وليس خانعًا معاقًا أو عالة على الأمة.

ثانيًا: الأخذ بأسباب النصر، من خلال تعهد وتربية نفسك وقلبك

محافظتك على أوامر الله واجتناب نواهيه يخلق منك بطلًا مغوارًا، وإلا كيف سينصر الله بك وأنت أعجز من أن تنتصر على شهوات نفسك الأمارة؟!

كل منا في مجاله، فلا بد من تربية النفس وإعدادها، وهذا يكون بالتعرف على الله بالرخاء ليتعرف علينا في الشدة؛ فالشدائد لا يقوى المرء على مواجهتها فجأة ما لم يستعن بالله ويُعِدّ نفسه لمثلها مسبقًا، ويكون ذلك بـ:

* المحافظة على أورادك من ذكر وتلاوة

* التدرج على أداء النوافل وعدم الاكتفاء بالفروض كالصيام ولو ثلاثة أيام في الأسبوع، صلاة التهجد، لا بد أن تربط نفسك بأسباب السماء لتستطيع القيام بدورك فكل قوة يُعد لها بعيدًا عن إمداد الله هي الضعف بعينه

* التقليل من الرفاهيات؛ فلا بد أن يخشوشن المسلم كي لا يعتاد الرفاهية، والمسلم لا سيما في فلسطين في رباط إلى يوم القيامة والرفاهية توّلد الرعونة والخمول والكسل، وليس هناك أضرّ على المسلم من أن تتمكن الدنيا في قلبه، ورضي الله عن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إذ كان يقول: "أكلما اشتهيت اشتريت"

* مدارسة سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام

* تحديث نفسك بالغزو؛ فمتى شاء الله لك أن تنزل في الميدان فلا يعقك عائق

ثمّ تدبر.. فقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته ثلاثة عشرة سنة وهو يبني العقول والقلوب، فإن لم تفتح قلبك وفكرك لداعي الحق، وتتحرر من عبودية العباد وعبودية نفسك فلن تُحرر بك البلاد يا هذا.

ثالثًا: أن تتناول قضية فلسطين في اجتماعك الأسري أو لقائك مع أصدقائك وإخوانك

لا تجعل هذه القضية في حياتك كردة فعل، بل اجعلها جزءًا من منظومة قلبك وفكرك؛ فالقضية ليست وليدة حدث ما، بل هي قضية عقائدية منذ القدم وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    رابعًا: أن تُغيّر هذه الأحداث في قلبك ونفسك

أن تعود لما كنت عليه سابقًا أو تظل على ما أنت عليه الآن، فهذه مصيبة تحيق بك من حيث لا تدري، وعلى المسلم أن يظلّ يسعى بتطوير وتزكية نفسه والعمل على إصلاح قلبه فلا راحة له ولا مستراح إلا عند دخوله الجنة بكلتا قدميه.

خامسًا: بشّر ولا تنفّر وبُث روح النصر لا وهمًا بل حقيقة؛ لأنه وعد ربك ونبيك.

سادسًا: إياك وأن تغتر بالأكثرية، أو أن تجانب الحق والصواب بحجة أن أنصاره قلة

قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]

سابعًا: الانشغال بتعهد النفس وإصلاح القلب والتأثير بمن هم تحت ولايتك أو من لك كلمة عليهم

المطلوب منك ألّا تشغل نفسك بالناس والحكم عليهم ماذا قدموا ولماذا لم يقدموا؛ فكل نفس بما كسبت رهينة، وكلٌّ سيحاسب على سعيه هو لا على سعي غيره.

وبعد كل هذا عليك أن تدرك أنّ هذه الأحداث التي نمر بها هي أفضل مدرسة نتعلم على مقاعدها ومن أحداثها التاريخ الحقيقي بدون أيّ تلاعب أو تحريف أو تزوير، فكل بلاد العرب وطن واحد بلا فواصل ولا حواجز ولا حدود، وما غير ذلك إنما فُرض علينا بالقوة والظلم ولكنه لم يتجاوز الورق، كما تعلمنا هذه الأحداث أنّ العزة والكرامة موروث عقائدي ورثناه كابرًا عن كابر فلا عزة إلا لله وللمؤمنين.

والدرس الذي نتعلمه أيضًا في مدرسة الأحداث هذه، أنه يوجد حق وباطل وليس هنالك سبيل ثالث، فاختر لنفسك سبيلًا ترتضيه وتدفع ثمنه وأنت راضٍ وتكون مستعدًا للوقوف بين يدي العظيم عندما يسألك ويُحاسبك عليه ويسألك عنه، فانشغل بورقة أسئلتك وتفرغ لامتحانك فلن يغني عنك أحد، ولن تغني عن أحدٍ شيئًا.