د. عبد الله فرج الله
في ظلال عملية «طوفان الأقصى»، نستذكر مقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه، التي نعنون بها مقالتنا، على حقيقة ترسم معالم الحياة الكريمة، التي يجب أن يسعى إليها الإنسان السوي، ويحرص على إثباتها كمنطلق رئيس، في قاموس حياته، فلا يقبل عليه مساومة، ولا يخوض جدلاً في صحته.
إحدى الحسنيين
والإمام الشافعي رحمه الله أحد الأئمة المعتبرين، الذين تلقتهم الأمة بقبول حسن، وأقرت لهم بالإمامة، يوصي أمته هذه، أفراداً وجماعات، ألا يقبل أحدهم الهزيمة أبداً، وألا يقر بها مطلقاً، ما دام يملك ولو حيلة واحدة للمقاومة، أو حتى نفساً واحداً للمقاومة، فلا يعذر أبداً من يقر بالهزيمة، قبل أن يستنفد جهوده كلها في المقاومة، فالمقاومة هي الأصل، الذي يجب أن يتمسك بها صاحب الحق، كنهج راشد في المطالبة بحقه، والدفاع عنه، إذ لا يمكن أن يقام وزن لصاحب حق لا يسلك طريق المقاومة، والمؤمن في مضائه وعزيمته لا يعرف شيئاً اسمه الهزيمة، فالأمر عنده إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة، وهذا ما أكده الأولون وبايع عليه المتأخرون: إنه لجهاد نصر أو استشهاد؛ (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (التوبة: 52).
المؤمن في مضائه وعزيمته لا يعرف شيئاً اسمه الهزيمة فالأمر عنده إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة
كأني بهذه المقولة الرائعة هي التي أسست لـ«طوفان الأقصى» الذي تعيش الأمة ظلاله اليوم، وهي الأساس الذي أقامت عليه المجاهدون في فلسطين كتائبهم المجاهدة، كتائب عز الدين القسام رحمه الله، الذي اتخذ المقاومة شعاره ودثاره، فترك وطنه، وهاجر حيث مهد الجهاد والمقاومة، وهناك رفع راية الجهاد، التي انطوى تحت ظلالها نفر ممن بايعه على الجهاد والمقاومة حتى الموت في سبيل الله، فسطر رحمه الله وصحبه أروع صور البطولات التي أذاقت العدو صنوفاً من الخسائر الفادحة، التي آلمته وأوجعته، حتى بات الشيخ المجاهد عز الدين القسام هدفهم ومطلبهم.. وبقي رحمه الله مقاوماً مجاهداً حتى آخر رصاصة كان يملكها، فلقي وجه ربه مقبلاً غير مدبر، فكان في جهاده هذا، ومقاومته تلك، كمن يزرع بذرة المقاومة والمجاهدة، التي نمت بعد استشهاده بخمسين سنة تقريباً، لتكون بفضل الله شجرة عظيمة، ضاربة جذورها في أعماق الأرض المباركة، معانقة أغصانها السماء، وها هي اليوم قوة جبارة، تجتمع قوى الطغيان والظلم العالمي على حربها.
وسبق الشيخ المجاهد عز الدين القسام الشيخ المجاهد عمر المختار رحمهما الله رحمة واسعة، بالعمل بوصية الإمام الشافعي رضي الله عنه، فالتحق بركب مقاومة المستعمر المستبد وقد تجاوز السبعين من عمره المبارك.
هؤلاء هم السادة العلماء الذين يؤخذ بمنهجهم، ويقتدى بفعلهم، ويسمع قولهم، وما سواهم من دعاة الخذلان والتثبيط، والتسليم بحجج واهية، ونفوس مريضة، وعزائم خائرة، وخوف مسيطر، وذل منتصر، لا يلتفت لقولهم، ولا يسمع نصحهم، ولا يرتضى علمهم، وإن حملوا من الشهادات العلمية صغيرها وكبيرها، ومن الرتب أسماها، ومن المنزلة أعلاها.
الضمانة الحقيقية
فالمقاومة هي وحدها الضمانة الحقيقية التي بها يسمع لك الآخرون، بل ويصيخون لك السمع، وإن تكلمت أو صرحت، وبها يفسح لك المكان والزمان إن لاحت في الأفق صورتك، وبها يسعى الكثيرون إليك، كل ذلك يمكن أن يحصل ما دمت ملكاً متربعاً على عرش المقاومة.
فالمقاومة طريق عزة ومجد، وإن لم توصل إلى أهدافها العاجلة في استرداد الحقوق، ورد الظلم والطغيان، لكنها بذرة تنمو رويداً رويداً، حتى تضرب في الأعماق جذورها، وتبسق في العلياء أغصانها، فتقضي على الوهن، وتقلع جذور الخوف والجبن، فترى الأطفال بحجارتهم يطاولون الدبابات والجنود المدججين بأسلحتهم، والشباب الحالم بغد باسم، يتحول إلى أسد كاسر، أو زلزال مدمر، لا يولي على شيء، ولا يهاب أحداً، وترى المرأة الناعمة قد غدت بركاناً يتفجر، وشلالاً يتدفق.
المقاومة طريق عزة ومجد وإن لم توصل إلى أهدافها العاجلة في استرداد الحقوق ورد الظلم والطغيان
هذه الصور الرائعة لم تكن لتنمو وتثمر، وتؤتي أكلها لولا بذرة المقاومة، يوم انطلقت تبدد ظلام اليائسين، وتنتصر على مقولات المثبطين، وتشق طريقها المليء بالتضحيات، المفعم بالآهات العذاب، المحاط بالأخطار والتحديات الكبيرة، وما أن سطع ضوء المقاومة، ولمع بريقها، وتجذر نهجها، واتضحت معالم طريقها، وكثر طلابها، وازداد عدد مؤيديها، حتى بدأت تتعالى الدعوات من هنا ومن هناك، من الذين يخافونها، وفي محاولة لحصارها ووأدها، بدأت تتعالى أصوات الداعين إلى البديل، الذي رأوه في المفاوضات والمساومات، وإعطاء الوعود الخادعة والآمال السرابية، التي تلهي الأمة عن طريقها وخيارها في المقاومة، لأنه خيار مرعب، آثروا أن يواجهوه بتنازل جزئي، عن جزء من المحتل، كي يسكت فيه صوت المقاومين.
وما كان لهذا العدو الماكر أن يتنازل عن هذا الجزء، ويقبل بمبدأ التفاوض ويجلس إلى طاولته، لو لم تكن مقاومة حقيقية، تنذره وترعبه وتتوعده.
ثم يسند إلى نفر مارق من أبناء هذه الأمة، للعمل على التقليل من شأن المقاومة، وتضخيم تبعاتها، وتهويل ثمنها الباهظ الذي يكلف الأمة، من أبنائها ومقدراتها، مقابل ما تحققه من إنجازات لا تكاد تذكر، غير أن الأمة أدارت لهؤلاء ظهورها، وأصرت على المضي في دربها آخذة بنصيحة إمامها «لا تقبل الهزيمة قبل المقاومة»، حتى وصلت بإذن الله ورعايته إلى محطة «طوفان الأقصى».
وختاماً، حين تقاوم، وحين تجاهد، وإن أسرت، وإن استشهدت، فأنت المنتصر بإذن الله، ولن يذهب دمك أو دم ابنك أو زوجك أو أبيك أو أخيك هدراً أبداً، فهذا هو طريق العزة والخلود، لا يرضيه إلا الدم الزكي، ولا يُصطفى له إلا التقي النقي.
المصدر: المجتمع