(1) سيرة قلم سيرة شاعر!

تشغلني منذ فترة مسألة الشعرية المنتمية، وهي مسألة تتداخل بشكل ما مع قضايا نقدية عريقة في تاريخ برامج النقد في الثقافات المختلفة، تظهر حينًا باسم الالتزام وحينًا باسم المسئولية الثقافية، وحينًا باسم المنفعة.

وفي إطار من هذا الانشغال أتابع الأصوات الأدبية والشعرية المنتمية التي تصدح بالتعبير عن أفكارها، وتشتبك مع قضاياها، متسلحة بالأدوات الفنية، معنية بالقيم الجمالية، مؤمنة بأن الحركة من أجل أدبية الأدب وشعرية الشعر جهاد بمعنى الكلمة.

 والشاعر عبد القادر أمين أحد من هذه الأصوات الشعرية التي تنطلق في تعاطيها الشعري من نافذة الانتماء المفتوح على نوافذ الجمالي، يصدر عن رؤية جادة صانعة ومفكرة، ومعبرة، محلقة بأجنحة فنية وجمالية تنسرب في جسم القصيدة، وقد أصابت تصميمها، وبنيتها الداخلية، وموسيقاها، وأنظمة خيالها.

وقارئ المنجز الشعري لعبد القادر أمين لا يمكنه أن ينكر رمزية القلم في أعماله جميعًا، في ديوانه: من نبض القلم، ثم في ديوانه: لمين بتكتب يا قلم ثم في ديوانه الذي بين أيدينا: دعوني أحتسي حبرًا.

وأعتقد- وأنا على حق فيما أعتقده- أن الدخول إلى العالم الشعري في هذا الديوان وفيما سبقه ينبغي أن يستصحب ما يتفجر من دلالات مخبوءة في العلامة اللغوية: القلم.

إن القلم في المعجمية العربية يدور حول معنى مركزي يتعلق بدلالة التسوية والاستقامة الناتجة بعد عملية البري التي تنصب على أنبوب الغاب.

وهو في الثقافة العربية مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بصناعة المعرفة، وبقضية الإيمان والاتصال بالسماء في تجليات الوحي العظيم.

وهو في الثقافة العربية يتداخل مع قيم التعالي والتسامي والرفعة  والصحبة الآمنة، والرفعة الحانية لقد استحال القلم على امتداد التاريخ نورًا هاديًا وثبت هذه الصورة ورسخها الذكر الحكيم بما أحاط به القلم من كرامة في السياقات المختلفة، ثم جاءت الشعرية العربية في تقاليدها الحضارية محتفية به ومحتفية بآثاره، حتى قال أبو الطيب:

وخير جليس في الزمان كتاب

وهو ما يعني بحق أن خير صحبة في الوجود هي صحبة القلم لم لا؟ أو ليس الكتاب الذي هو خير جليس في الزمان هو ابن ذلك الأب الكريم الذي هو القلم؟!

(2) القلم والحكمة النافذة

ربما يصح أن يقرأ هذا الديوان في سياق البحث عن مسارات النجاة من اللحظة المأزومة فعلاً، والشعر يرى في نفسه دومًا القائد في هذه الرحلة، لا يرضى بغير ذلك المقام، ولا يتنازل عن تلك المكانة، ولأجل ذلك صح على امتداد التاريخ أن يقال: "إن الشعر... يمثل أداة هامة لأجل زيادة الشحنة العاطفية التي تقوى المعرفة" وربما صح كذلك أن يتقرر: "أن الشعر هو الذي يصوغ المعرفة أو الفكرة"، على حد تعبير الدكتور أسعد دوراكوفيتش في كتابه: (علم الشرق ص 52 طبعة الكويت 2010م)

عبد القادر أمين مرتحل في سبيل نجاة قومه، ومرتحل بعد تحقيق هذه الخطوة إلى نجاة الإنسان، أو نجاة العالم، وصناعة سلامه.

وفي الطريق نحو إنجاز هذه الرحلة تتبدى أسلحة القلم، والورق والحبر، والكتابة لتنجز الحكمة النافذة التي تخلق النجاة والسلام.

(1-2) وربما دعم ذلك التوجه من جانبنا توافر شعرية الحكمة في هذا الديوان عن في عدد كبير من أبيات القصائد، وإن في كل المقطوعات القصيرة المكتنزة بالحكمة، ولعل المعيار الظاهر هنا هو حرص الشاعر على تصميم قصائده على ما يمكن أن يسمى ببنية التأمل، واستثمار المفارقة العقلية لإظهار المخبوء، من ملاح الحكمة، ومن أدلة ذلك قوله في مقطوعته: صفقة:

* من بادلني بالأوطان..

* كسرة خبز..

* شربة ماء

* أحمله فوق الأعناق

* وأتوجه..

* ... رمز غباء

وفي هذه المقطوعة اعتماد أساسي على تقنية المفارقة، واستثمار تقنية التصعيد أو التأزيم climax المستعارة من صناعة القص الذي يصل ذروته عند قوله:

أحمله فوق الأعناق

وأتوجه..

 ثم في لحظة التثوير أو النهاية تنفك مغاليق الأزمة عندما يكشف الشاعر عن المكافأة أو التاج؛ ليكون رمز غباء

وهي مفارقة تحمل طاقة موحية قوية لأنها تعتمد بنية التناقضات، وتنطلق من أفق غير المتوقع.

تبدو الحكمة في كل الديوان هي سفينة نجاة الوطن، ونجاة القوم، ونجاة العالم

(2-2) ويدعم هذا الخيط توافر المعجم المرتبط ارتباطًا عضويًّا بالقلم الذي يستحيل على امتداد الديوان معادلاً موضوعيًّا للحكمة والنجاة.

يظهر الورق، ويتجلى في صور كثيرة يبحث الإنسان فيها عن أمانه وارتياحه، واستعادة نشاطه، يقول الشاعر في قصيدته: أرق على سرير الورق:

هون على قلب القصيدة جرحها * دع عنك يأسك وامتط أقلامها

...

تتبرج الأوراق يبسم ثغرها *   فيسيل من شفة السطور لعابها

ومع تقدير هذه الصورة الكلية (اللوحة) التي تتبدى فيها الورقة عروسًا تتفجر جمالاً، وحسنًا، تفجر في قلب عاشقها ولها، تدفعه دفعًا إلى وصلها، تتحول الورقة إلى رمزية تخلق الفرح الجليل بما تنشره من حكمة تتراقص على سطورها وتظهر الأوراق مفردة، وتظهر مجموعة، لعل أجل صور تجمعها تتمثل في صورة الديوان، بمعناها المتسع العام الذي هو (كل كتاب) أو بمعناها الضيق الخاص الذي هو (كتاب الشعر)، هذا التنويع دال على الحفاوة بتجليات الورق المادية جميعًا، يقول الشاعر في قصيدة: اقرأ ديوانك:

* في لحظة الأجل المحتوم ساعته

* قامت قيامة أوراقي

* فبعثرها

* نفخ الكلام

* ومرت من على سطري

* مر الكرام

* ويسعى النور بالبشر

(3-2) ولا يمكن للقلم الذي يسعى نحو وصل أمره بالورق أن يتم هذه الوصل المقدس من دون توفير مادة صنع هذا الوصل وهو الحبر. والحبر وإن بدت لفظة تأسيسية في الديوان منذ عنوانه فهو لا يتصور من غير وجود الرحم الذي يستوعبه وهو القلم

والحبر متى ظهر في هذا الديوان يظهر وقد أحاطت به ملامح الإجلال وعلامات التقدير، ومحددات الحفاوة

يقول الشاعر

طهر المعاني للمحراب محبرتي

...

فالشعر أرحب لي

والحبر أجمل بي

والبيت أوسع.. والعقبى لمن كتبا

في هذه الأسطر يلوح الحبر محفوفًا بآية الإجلال والتقدير، جاء وقد أخبر عنه بنص صريح في التحسين والقبول

وحين يظهر الحبر في بعض تعابير مراوغة في القصيدة التي حمل الديوان عنوانها، يظهر كذلك محفوفًا بدلالات إيجابية إيمانية من جانب، وسلاحًا يحرر الإنسان من كل صور العبودية والرق؛ يقول الشاعر:

وممزوجًا بكأس من عصير الحبر في نفسي

شربت السم من حظي

وساعتها... نطقت شهادتي دمعًا

يحمم سطر إيماني

...

دعوني أحتسي حبرًا

أفجر كل أوراقي على صدري

وسيف قصيدتي يمضي على نحري ليرحمني

إن كل تجليات القلم وعلاقاته المتشابكة بالكتابة والورق والحبر تنطق معلنة أن تحرر الأوطان والإنسان يبدأ من بوابة الحكمة!

سبق مني في هذه القراءة أن قررت أن عبد القادر أمين واحد من أخلص الأصوات الشعرية المنتمية، والشعرية المنتمية بما هي شعرية طامحة نحو خدمة المسئولية، وصياغة المعرفة لا يمكنها أن تتنكر للجمالية، ذلك الكلام إذ خاصم محددات الجمال خرجت روحه، وصار جثة هامدة لا تنتج شيئًا توشك بعد قليل أن تستحيل رمة تشيد جبالاً من النفور.

(1-3) وعبد القادر أمين يحتفل باعتبار غاية الديوان وقضيته بمعجم مسكون بمحددات رومانسية جديدة إيجابية خضراء، تنفر من اليأس وتواجه التشاؤم، وتنفخ الروح في العودة الماجدة.

لقد ظهر على امتداد قصائد الديوان حفاوة كبيرة بمعجم الحزن والبكاء طريقًا ودافعًا نحو التغيير، مختلطًا بمعجم النور والزهور، في تجلياتها المختلفة في النهار والصبح والفجر والضحى، وهي أوقات تحاط بالفرح المنتظر والمتحقق في الثقافة العربية والثقافات الإنسانية عمومًا، يقول الشاعر:

* صباح الفرح يا مصر

* ..

* صباح حكاية تبقى على الأزمان ممتدة

* لتمحو من رءوس الشعب ما ضده

وتتعانق هذه الحقول جميعًا بألفاظ من حقول الورد والعطر والسحر والنضر والخصب متجسدًا في السنابل والزروع والأشجار والأرض جميعًا، يقول الشاعر:

* حرث الأرض بفأس الحب

* وألقى الحب بسم الله

* وروى النبت بماء الورد

وهذه النوع من الحقول يخلق ثقافة البهجة والارتياح والانتعاش، لأنها حقول يسكن الإنسان حبها والتعلق بها بشكل فطري، وكلما امتدت يد لاغتيالها حن الإنسان إلى عودتها.

وهي حقول تقيم العلامات على العالم المنشود الذي يطمح الشاعر أن يتخلق واقعيًّا بعد أن تخلق شعريًّا.

(2-3) وعلى مستوى بنية التراكيب في قصائد الديوان فإن ثمة حضورًا كثيفًا بالمعايير الإحصائية لأسلوب الاستفهام، وأسلوب الاستفهام يتكافل تكافلاً إيجابيًّا مع قضية الحكمة النافذة، ومع قضية المعرفة المنجية.

وقد استحال الاستفهام في بعض الأحيان إلى تقنية مركزية مثلت الأساس في تصميم عدد من قصائد الديوان في مثل قصيدة: من علمك؟ فمنذ بداية القصيدة، وانطلاقًا من عنوانها تجلى الاستفهام أساسًا لبناء القصيدة، حاكمًا على معمارها، يقول الشاعر:

* من علمك

* أن تهجر العش الأمين غباوة

* كي تمتلك

* جحرًا هلك

والاستفهام دوران جاء مناسبًا لقضية النجاة من خلال سفينة الحكمة يحقق جماليات أخرى تقوم مقام وظيفة التصوير ويعوض غيابه، وتخلق روحًا إقناعية، بما تشيعه من أجواء التأمل على طريق البحث عن إجابات ولو لم تكن مطلوبة، أو مطلوبًا الإعلان عنها.

(3-3) ومع ذلك فإن ثمة عناية ظاهرة من الشاعر بالصور الكلية، أو بمنطق اللوحات ولعل أكثر الصور الكلية دورانًا في قصائد الديوان هو تصوير الورق دومًا في صورة عروس تتزاحم في تشكلها ملامح الجمال المادي والروحي، وملامح الحسن الخلقي الخلقي، يقول الشاعر:

* نام الورق

* وتمددت فيه السطور

* فكت ضفائرها

* لم تنسدل إلا على الحرف الحلال

* خلقت حروف غنائها.. وتجملت

* وتزينت

* فكأنها بدر البدور

ومسألة التصوير بالعطيف سمة تميز الشعرية المنتمية ولعل أظهر أمثلتها السائرة التعبير الشعري المتدفق لجابر قميحة أحد آباء الشعرية المنتمية المعاصرين عندما قال:

الكلمة عرض الشاعر!

وهذه الصورة التي تتمدد فيها العروس (الورق) وهي تفك ضفائر، لتتركها تنسدل على الحروف الحلال حصريًّا بدلالة "إلا" الاستثنائية تقرر أن طريق النجاة مرسومة عمارتها وقد شيدت من لبنات الحكمة الجليلة والحق المقيم المتدثر بأثواب الزينة والجمال.

بعد قليل سيبدد بدر البدور ظلمات الواقع المريض وتنجو الإنسانية بأثر الخير الذي يسكن فينا.

-----------

كلية الآداب- جامعة المنوفية.