أعتقدُ - و بقوةٍ - أن القضاة قد أدركوا اليوم ماذا يعنى حكمُ العسكر الذى دعموه حتى قام على أكتافهم و سمحوا له أن يجعل من محاكمِهم ثكناتٍ كانوا هم جندَه فيها ، و كانت ضمائرُهم وذممُهم هى سلاحُه الذى صوَّبوه إلى أنفسِهم قبلَ أهليهم و وطنِهم ، لقد وضعوا عنق العدالةِ فى يدِه و علموه طريقة ليها ، فلما استوى على عرشِ مصرَ لَوَى أعناقَهم ، و علموه كيف يمسكُ مدفعه ويرمى الدستور والقانون ، فلما اشتد ساعدُه رماهم ، و علموه كيف يُنظَم الكذبُ فى الأحكامِ ، فلما حكم هجاهم وافترى عليهم ، لقد تنازلوا عن سلطانِهم و وضعوه قربانًا تحت أحذية العسكر ، و سلموهم - عن يدٍ وهم صاغرون - مفاتيح العدالةِ قدس أقداسِ الدولة فأخذوها لأنفسهم و حبسوا العدالة فى زنزانة الإنقلابِ.

لقد أصبح القضاةُ - اليوم - بلا سلطةٍ بعد أن أسلموا العسكرَ سلطتَهم ، و أصبح القضاءُ خاويًا على عروشِه ، أجوفَ لا وزنَ لهُ ، مجرد ديكورٍ أو سجادةٍ وضعها العسكرُ فى بلاطِهم ليطؤوها بأقدامِهم ، لم يبقَ منه إلا ظلً شاحب لا كيانَ له بعد أن فقدَ مدلوله وأصبح اصطلاحًا لا معنى له ، كلما اقتربَ طالبُ العدلِ و الإنصافِ منه اكتشف أنه مجرد سرابٍ كان يحسبُه قضاءً ، ماذا بقى للقضاءِ بعدَ أنَّ حوَّل العسكر الدولةَ إلى معسكرٍ كبيرٍ ؟ و ولَوا قضاءَهم العسكرىِّ سلطةِ القضاءِ فيهِ ، فأصبح صاحبَ الإختصاصِ العامِ بعد أن كان ذا اختصاصٍ استثنائىٍّ.

كيف انساقَ القضاةُ وراء الزند ليبيعَهم ويقبضَ الثمن مقدمًا ، لقد جعلهم يرقصون على السُّلم ، فلا هم حافظوا على ثقةِ الناسِ فيهم و لا أهم نالوا ما وعدهم الإنقلابُ به من استقلالٍ و إغداقٍ ، بل فقدوا احترامَ الجميعِ داخلَ و خارجَ مصرَ ، و استولى الإنقلابُ على سلطتِهم التى وضعوها - من قبل - فى يده ، لم يُبْقِ لهم إلا الخوفُ والذلُّ و المهانةُ ، و بعد أن كان القاضى فوق الجميعِ أصبح حذاءُ العسكرِِ فوق رأسِهِ ، وأصبح - بالأمرِِ - مسئولًا عن مسحِ ما يتغوَّطُهُ العسكرُِ و يدنِّسونَ به الوطنَ ، فلا تفوح رائحةُ برازهِم و يشمها الناسُ ، و بالأحرى أصبح القضاءُ أنابيبَ المجارى والمصارفَ التى يُصرِّفُ فيها الإنقلابُ قذارتَهُ ، فما أشبه القضاءَ - الآن - بمصرفِ بحر البقرِ ، أما الزند فلقد قبضَ الثمنَ و لا زال يجنى مع الإنقلابيين أرباح الإنقلابِ من ذهبٍ وياقوتٍ ولؤلؤٍ وحدائقَ غناءٍ وجوارٍ ونسَاءٍ.
------------
رئيس محكمة المنصورة الابتدائية