اختير مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ثم قبض عليه السادات مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م، وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة- وقيل نصف مليون- من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر.

 

وكان الشباب دون العشرين، وفوق العشرين، الذين جاءوا من مدن مصر، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين، وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر، وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي.

 

وشارك وفد من الكنيسة المصرية برئاسة الأنبا غريغوريوس في تشييع الجثمان.

 

وقال إبراهيم سعده رئيس تحرير (أخبار اليوم) عنه بالحرف الواحد: مات عمر التلمساني، صمام الأمان، لجماعة، وشعب، ووطن!!

 

ومن كتاباته "ذكريات لا مذكرات- وشهيد المحراب- وحسن البنا الملهم الموهوب- وبعض ما علمني الإخوان- وفي رياض التوحيد- والمخرج الإسلامي من المأزق السياسي- والإسلام والحكومة الدينية- والإسلام ونظرته السامية للمرأة- وقال الناس ولم أقل في عهد عبد الناصر- ومن صفات العابدين- ويا حكام المسلمين.. ألا تخافون الله؟- ولا نخاف السلام ولكن- والإسلام والحياة- وحول رسالة نحو النور- ومن فقه الإعلام الإسلامي- وأيام مع السادات- وآراء في الدين والسياسة.

 

التلمساني والكنيسة

كتبت صحيفة (وطني) لسان حال الكنيسة المصرية في عددها الصادر في 25/5/1986م، عن عمر التلمساني فقالت:

توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجل الدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس، مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة.

 

رحل- رحمه الله- عن عمر أربى على الثمانين وكان يشكو في سنيه الأخيرة من وعكة مرضية إلى أن أصيب بتليف بالكبد اضطره إلى دخول المستشفى من شهر... ومن أسبوعين انتابته غيبوبة، فظل في غرفة الإنعاش على أن جاد بأنفاسه الأخيرة مأسوفًا عليه من الجميع.

 

و"أنطون سيدهم" يشاطر أسرة الراحل الكريم وإخوانه ومواطنيه مشاعر الحزن على فقد هذا الشيخ الجليل، رحمه الله رحمةً واسعةً.

 

وقال محرر جريدة (الأهرام) في 13/6/1986م:-

عرفته منذ نحو عشر سنوات، فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى، كان هادئ الطبع، قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر، ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق.

 

فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوى الرأي السديد، والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

إن حزني على رحيل عمر التلمساني شديد، فقد كان الرجل من الدعاة الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية وفق المنهاج الإلهي الذي يصوره قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)... وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185).

 

وإذا كان لي من دعوة أتوجه بها إلى الله عز وجل بعد رحيل هذا الداعية الكبير، فهي أن يوفق سبحانه وتعالى الذين يعملون في مجال الدعوة من بعده إلى العمل وفق هذا المنهاج وإلى السير على طريق الراحل الكريم الذي هو في واقع الأمر، صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله بإتباعه.

 

وقال الأستاذ يوسف ندا:-

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).

 

المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بكافة تنظيماتها المحلية والدولية والعالمية بعد سن قارب الاثنين والثمانين عامًا تكالبت عليه فيها أنياب الظلم فلم تنفذ إلى عمق توحيده للقادر على الرزق والأجل. عمل في صفوف الجماعة ثم في قيادتها ثم على رأسها ثلاثة وخمسين عامًا، قضى منهم في السجون والمعتقلات أكثر من عشرين عامًا منهم سبعة عشر عامًا متصلةً.

 

عاش بقلب كبير احتوى كل من أجهد نفسه في حرب معتقداته، وبخلق كريم أسبغه على الكريم وعلى اللئيم. وعاش عفيفًا ليس لغير الله عليه يد فكان جبلاً في الإباء والشمم. وفيًّا يذكر ويشكر الكبير والصغير على ما قدموه لغيره أو لدعوته. عظيمًا في إيمانه وإسلامه، متواضعًا أفخر بالبساط في العيش والمظهر، أكبرته قلة زاده التي نافس بها الفقراء وطهارة القلب وبراءة الوجه وحياء الطفولة التي زينت هيئته وشيبته. عاش مجمعًا لكل من تفرق على فكر أو عمل أو دين أو مذهب عاش يدعو الناس حتى يكونوا مسلمين ويؤلف بين المسلمين حتى يكونوا إخوانًا.

 

وقال الأستاذ جابر رزق- المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين:-

لقد اختار الله الشيخ عمر التلمساني ليقود الجماعة في سنوات ما بعد محنة السجون التي استمرت قرابة ربع قرن من الزمان، فاستطاع- بحكمه الشيخ الذي حنكته السنون، وأنضجته السجون، وبميزات شخصه منحه الله إياها. وبأخلاق الإسلام التي صبغت سلوكه وتصرفاته.

 

ن يفرض "الوجود الفعلي" لجماعة الإخوان المسلمين على الواقع المصري، والعربي، والعالمي، فعلى مدى العقدين الأخيرين: عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات كانت كلمات التلمساني، وتصريحاته وكتاباته تبرز في مقدمة وسائل الإعلام محليًّا وعربيًّا، وعالميًّا، والإذاعة ووكالات الأنباء من كل أنحاء العالم، وجاءه مندوبو الصحف حتى اعتبر عام 1980 صاحب أكبر عدد من الأحاديث الصحفية والتليفزيونية على مستوى العالم.

 

وكتبت السيدة زينب الغزالي تقول:-

 الصورة غير متاحة
زينب الغزالي

عرفته، فقرأت في تقاسيم وجهه الحب لكل الناس. لا بأس من أن يرى العاصي يومًا، تقيًّا نقيًّا قريبًا من الله. يغفر للحاكم المسيء، كما يغفر للفقير الذي استغرقه الخطأ، ولكن لا يكف عن نصيحة الحاكم وتربية الفقير، لا يخشى إلا الله، ولكنه يستحيى أن يقول لإنسان أنت مسيء، فقط يدعو له ويعظه في جموع المسيئين والمحسنين. يحمل الطهر في كل جوارحه، لحقيقةٍ جُبل عليها، عف اللسان مع من أساء. حيي كالعذراء البتول، قوي في الحق الذي اعتقده، مصر على نصرته، أب لكل أتباعه ومريديه، الشدة لا ترهبه، غياهب السجون لم تزده إلا إصرارًا على الحق، وتفانيًا في نصرته.
 

ولا أنسى ذلك اللقاء، وكان في ألمانيا، عندما سألته: المسلم إذا احتاجك وليس من جماعتك، وأنت قادر على مساعدته، ماذا تفعل؟ قال لا أتأخر لحظة واحدة على نصرة مسلم.

 

 يقول الأستاذ صالح أبو رفيق- من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد:-

كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه، سمحًا يذوب رقةً وحياءً، ويتألق تواضعه في عزة المؤمن، وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته، دون صلف أو تكبر، من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54).

 

جاهد في سبيل الله أصدق جهاد، وتحمل في سبيل ذلك أشد العذاب وقدم أعظم التضحيات.. وكان متمكنًا في الفقه، عالمًا بجميع جوانب دينه الحنيف، متحدثًا مقنعًا. وخطيبًا مؤثرًا، تخرج الكلمات من أعماق قلبه، فيأتي وقعها على القلوب بردًا وسلامًا. عذب الأسلوب، مهذب المنطق، في جلال ووقار. تاريخه حافل بالمواقف المشرقة، ولم تثنه الأحداث الجسام وشرور اللئام عن قول الحق، والتمسك بالحق، والصمود من أجل الحق، الذي كان يؤمن به.

 

ولا أنساه في سجن الواحات الذي خصص أصلاً للإخوان المسلمين ومن بعد للشيوعيين، والجو قاري، وقارس البرد شديد الحر، مع العواصف الرملية الشديدة التي يدخل رملها في مسام الجلد، فتثير الأعصاب، وتقلق الراحة وتقض المضاجع وتزعج النفوس، ظروف غاية في الصعوبة لا يتحملها إلا أولو العزم، كان رحمه الله يقابلها بابتسامة الرضا العذبة، وجلد المؤمن القوي، الواثق من أن ابتلاء الله لعبده يحقق أسمى الغايات لكل مؤمن، يكفر عن سيئاته ويكون في ميزانه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولسان حاله يقول قولة الصوفيين: "كل ما يأتي به المحبوب محبوب".

 

وقال الشيخ عبد البديع صقر- أحد الرعيل الأول- في حقه:-

عرفته محاميًا ناشئًا يواظب على محاضرات الأستاذ حسن البنا في دار العتبة الخضراء سنة 1936م.. ثم عضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة، ثم عضوًا في مكتب الإرشاد العام.

 

كان رجلاً جميلَ الخلقة، متكاملَ الهيئة، تامَ الأناقة- وكان أمثالنا من "المنتوفين" يقولون عنه وعن أمثاله من الوجهاء" مثل محمود أبو السعود وحسين عبد الرزاق ومحمد محمود الصواف ومصطفى السباعي" يقولون: هل هذه الأشكال تصلح للعمل الإسلامي؟ أو تقوى على "البهدلة" في سبيل الدعوة؟.. ولكن محيط الدعوة كان سوقًا كبيرًا يتسع "للمشطوفين" و "المنتوفين" على حد سواء.

 

والمحنة لا تحتاج لأسباب- فهذا المحامي المترف الخجول- لم يشتم أحدًا ولم يشترك في نقاش مع أحد- فضلاً عن أن يضرب أو يجرح- وكان مستغرقًا في مكتبه الناجح. ولكنه سيق إلى السجن ثلاث مرات قضى في بعضها سبعة عشر عامًا متوالية وفي الصحاري المحرقة.

 

قال الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر الشريف:-
رحم الله عمر التلمساني- رضي عنه وأرضاه في الجنة- فقد كان نفحةً من نفحات الله تعالى في حياته ومماته جميعًا. وذلك منذ بدأ رحلته في الدعوة الإسلامية منذ نصف قرن أو يزيد، وكان يومئذ شابًا يافعًا مترفًا، أنيقًا رقيقًا، يشفق عليه الخبراء بأثقال الطريق، وأعباء الدعوة، وتبعات البيعة.

 

ثم حين ختم رحلة حياته وهو يحمل الراية، ويرفع لواء الإسلام، ويقدم الصفوف جميعًا، يرى راحته في دعوته، رغم وهن العظم، واشتعال الشيب، وأنه "لم يعد في قوس العافية منزع" كما قال في آخر لقاء عام له في نقابة الأطباء في شهر ربيع الأول الماضي.

 

كان الرجل- رحمه الله- نفحة إلهية هادية، وهادئة. وكان نسمةً طيبةً. مطمئنة إلى جنب الله تعالى، اطمئنانًا راسخًا عبرت به رحلة هذه الحياة الصاخبة عبور الطيف المنير، حتى خلصت إلى ربها راضية مرضية بإذنه وفضله تعالى.

 

هل نذكره- رحمه الله- وهو في السجن المتطاول تعلوه بسمته، وأمله الدائم في الله رب العالمين؟ هل نذكره وهو يذوب حرصًا على هذه الدعوة، ونصحًا لهذه الأمة، وإخلاصًا لهذه الجماعة المؤمنة، التي سلكت طريق الأنبياء عليهم السلام، ولا بد أن تشرب من نفس الكأس، وتخضع لسنة الله الدعوات وأصحابها؟

 

إننا لنذكره- رحمه الله- وهو يخط كلماته الندية من المعتقل، إلى الإخوان في السجون، تبشرهم بنصر الله وعظيم الأجر، وجميل التفويض.

 

أن ألحق بإمامي الشهيد حسن البنا وقد وفيت بيعته.

 

وكتب الأستاذ فتحي رضوان- رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان:-

عرفت عمر التلمساني الذي استحق عن جدارة اللقب المهيب الجليل لقب "شيخ" وهو محامٍ في مدينة شبين القناطر يمارس عمله إلى آخر العمر متواضعًا لا يلفت إليه النظر، بصوت عالٍ، ولا بمشية يشوبها الخيلاء ولم نكن نعرف آنذاك عنه أمورًا منها أنه حفيد "باشا" من باشوات العرب الأغنياء الذين فاض الله عليهم رزقه، كما لم نفطن من مجرد اسمه أنه عربي من الجزائر مما يرفع قدره ويعلي من شأنه، فالجزائر هي موطن الجهاد والسلاح والوقوف في وجه استعمار الفرنسيين سافكي الدماء، وهاتكي الأعراض، وقاطعي الطرق فقد تصدى لهم عبد القادر الجزائري بسلاح بسيط فأثخنهم جراحًا سبعة عشر عامًا، والعجيب أن السبعة عشر عامًا هذه، كانت من نصيب عمر التلمساني سجنًا متصلاً. احتملها صابرًا محتسبًا وخرج إلى الحياة فكأنه كان في نزهة فلم يحدث عن هذه الفترة الطويلة من القيد أو الحرمان والتضييق وتولى مكان الرياسة والصدارة بين جماعته.

 

وقال عنه الكاتب الصحفي محسن محمد تحت عنوان "من القلب":-

قابلته في مكتب جريدة "الدعوة" بالقاهرة، لا توجد حوله سكرتارية ضخمة، أو قيود تمنع لقاءه. والمكتب الذي يجلس عليه صغيرًا للغاية فقد نبذ الرجل الأبهة، وقد كان من أغنياء الإخوان في شبابه.

 

وكتب الدكتور حلمي محمد القاعود- أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة طنطا يقول:-
لا أزعم أنني سأضيف جديدًا إلى ما كتب حول عمر التلمساني المسلم الصابر المحتسب، ولكني أزعم أن تقديم الرجل كقدوة هاجس يشغلني، بعد أن أصبح الذين يعنيهم تنوير هذا الشعب يكتفون بتقديم نماذج هامشية أو تحت مستوى الشبهات. لتكون الأسوة التي يحتذيها أبناء وبنات الوطن.

 

ولا أعتقد أن مرحلة حرجة من حياة الوطن أحوج ما تكون إلى تقديم عمر التلمساني كقدوة مثل هذه الفترة التي سادت فيها أخلاقيات الانتهازيين المرتشين والوصوليين والمنافقين والمصالح المتبادلة. فالرجل- رحمه الله- كان يمثل صورةً مضيئةً للمسلم الذي ظل طوال حياته "1904- 1986م" يطمح إلى المثال الحي والقيم المضيئة.

 

وقال الشيخ محمد الغزالي- عليه رحمة الله-:

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة "شبين القناطر" وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.

 

السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم. وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث.

 

وقال الأستاذ أنور الجندي- الكاتب والمفكر الإسلامي:-

 الصورة غير متاحة
أنور الجندي

حياة عريضة خصيبة، كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى.. فقد كان "عمر التلمساني" نموذجًا كريمًا، وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ (الأنعام).
 

وكتبت مجلة (اليقظة) الكويتية تحت عنوان "الشيخ عمر التلمساني من حياة مترفة إلى سجن وتشريد" فقالت:-

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب) صدق الله العظيم.

 

هؤلاء الرجال الصادقون كانوا كثرة في زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولما تطاول العهد وتقادم زمان النبوة قل أولئك الرجال الصادقون حتى أصبحوا في ندرة الدر والجوهر.

 

إذا كان في زماننا هذه أحد من أولئك الأبطال فإنه- بلا ريب- الشيخ عمر التلمساني الذي جاء نعيه منذ أيام ونزول خبر موته كالصاعقة على قلوب محبيه ومريديه والمعجبين به.

 

والشيخ عمر التلمساني كان محبوبًا لدى الجميع من عرفه عن قرب أو سمع عنه عن بعد، وذلك لدماثة أخلاقه، ورقة قلبه، وتسامحه العظيم حتى مع أعدائه ومخالفيه.

 

وكتب سيد هادي خسرو شاهي في جريدة (اطلاعات) الإيرانية في عددها الصادر في يونيو سنة 1986م يقول:-

 "كان وفيًّا لمبادئ الإخوان طوال حياته، قضى عشرين سنة من عمره في سجون الاشتراكيين وأتباع القومية العربية بعد المؤامرة الغادرة التي دبرها جهاز الأمن المصري ضدهم بأوامر الضباط الديكتاتوريين حكام مصر، وذلك من أجل قمع الإخوان المسلمين. يرحم الله الشيخ الذي بقي صامدًا في طريقه ولم يستسلم لليسار المزور أو اليمين المتطرف، وأسلم الروح في النهاية بجبين مرتفع وتاريخ وضاء وهو اليوم بلا شك في حضرة العدل الإلهي وينبغي على فراعنة مصر أن يقدموا لله حساب الظلم الذي ألحقوه به وبآلاف المسلمين المصريين الآخرين، والأمة المصرية والعالم العربي والإسلامي؟!"

 

وقالت جريدة (الرأي العام) في عددها الصادر في 30/51986/م تحت عنوان "المجاهد الإسلامي عمر التلمساني وداعًا":

فقدت الأمة الإسلامية مجاهدًا بارًا.. أعطى حياته لقضية الإسلام وظل حتى آخر رمق في حياته ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية كوسيلة لخلاص الأمة العربية من الأزمات والنكبات التي لاحقتها في السنوات الأخيرة بعد أن تعثرت قوانين الشريعة في دهاليز مجالسها النيابية، لقد كان عمر التلمساني.. المجاهد الإسلامي، لا يخاف لومة اللائمين، أو ظلم الحكام، أو إرهاب أعداء الإسلام، وكان يقول كلمته لوجه الله تعالى.

 

وكان رحمه الله مناضلاً كبيرًا، لا يهادن، ولكن يجنح للسلم دون ضعف أو ترجع، وبالرغم من كبر سنه واعتلال صحته فإنه حمل مشعل الكلمة الطيبة المناضلة حتى آخر يوم من حياته، وحظي باحترام أعضاء جماعته والناس، و(الرأي العام) تنعى الأمة الإسلامية في فقدها المجاهد الإسلامي عمر التلمساني، أسكنه الله فسيح جناته.

 

وكتب الأستاذ خالد محمد خالد تحت عنوان "الإخوان المسلمون بين وداع فارس شهيد وانتظار مرشد رشيد" فقال:-

يوم الجمعة الماضي زفت إلى السماء- في عرس عظيم- روح فارس شهيد، أجل- شهيد!!

 

فالرجل الذي يواصل رحلته المضيئة في سبيل الله مغالبًا شيخوخته، ومقاومة أسقامه وأمراضه.

 

حاملاً رايته في ثبات وولاء ورشد حتى اليوم الأخير من أيام حياته الوهنانة، غير متجانف لكسل، ولا مجلد لراحة، يرى حياته تميل للغروب، وزورقه يترنح بعيدًا عن المرفأ والشاطئ ثم يصر على المقاومة. الراية ملء يمينه، والولاء لها ملء يقينه. ثم لا يكفكف من بلائه وعطائه سوى غيبوبة الموت، إنه- إذن- لشهيد وأي شهيد...!!

 

كذلكم كان "عمر التلمساني" رحمه الله ورضي عنه.

 

وإني لأبصر في هذا الرجل "مَعلمًا" من معالم الدعوة التي فتح كتابها، واستهل شبابها الإمام الشهيد "حسن البنا" رضي الله عنه وأرضاه.

 

"عمر التلمساني" وحده، مَعلم من معالم هذه الدعوة بما أورثته من هدى ونور..!!

 

ولقد كان الرجل المناسب في الوقت المناسب لقيادة "الإخوان المسلمين" الذين خرجوا من محنتهم التي تتضاءل أمامها كل المحن، يتلمظون برغبة طبيعية في الثأر والانتقام..!!
فجاءهم "عمر" وقد انتفع بالدرس القديم!! وحذق العبرة منه. وصادف ذلك طبيعة فيه وديعة، ومسالمة، فنبذ العنف ونسي الثأر.

 

وقال عنه الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين تحت عنوان "فكرة":-

لو كان عمر التلمساني على قيد الحياة لاستنكر إحراق المسارح ومحلات الفيديو ومحل بقال في الزمالك. فالإسلام الذي سمعته من فمه دين يدعو إلى الحب والتسامح والبناء والتعمير، ويرفض العنف والحرق والتدمير. ولا إكراه في هذا الدين ولا حقد ولا بطش ولا انتقام.

 

وقد أمضيت سنوات طويلة مع التلمساني في سجن ليمان طرة. وكانت زنزانته في مواجهة زنزانتي، كنت أراه كل يوم وأتحدث إليه.

 

وكان أكثر ما حببني فيه سعة صدره واحتماله الغريب، ومواجهته للبطش والاستبداد بسخرية واستهزاء، فقد كان يشعر أنه أقوى من الذين قيدوه بالأغلال، وكان مؤمنًا بأن المحنة لا بد أن تنتهي ويخرج من السجن ويكتب رأيه وينشر الفكر الذي آمن به. كان يعتقد أن العنف يضر ولا ينفع. يسيء للفكرة ولا يخدمها. كم تدخل ليهدئ الثائرين ويهدى الضالين.

 

وكان التلمساني يرى أن الإسلام يلعن الطاغوت، أي الذي يفرض إرادته على الناس، ويكتم أنفاسهم ليتكلم، ويقيدهم ليتحرك فوق أشلائهم. وكان يعارض الاغتيالات وأعمال العنف. ويرى أن مقاومة الطاغية تكون بالصمود والإيمان والثبات.

 

وقال عنه المفكر والكاتب الصحفي اليساري أحمد بهاء الدين:-

تركت وفاة المرحوم عمر التلمساني مرشد عام الإخوان المسلمين مذاقًا مرًّا لدى جميع الناس، فالفترة التي وقف فيها الرجل في مقدمة جماعته مرشدًا وممثلاً لهم، تميز فيها أمام الناس بعفة اللسان، وسعة الأفق، واتساع الصدر للحوار، والأدب الجم في هذا الحوار، مهما كان خلاف الآخرين معه.

 

ولي معه تجربة شخصية جرت هنا على صفحات (الشرق الأوسط) فقد كان المرحوم عمر التلمساني ينشر مذكراته في جريدة (الشرق الأوسط) وجاء على ذكر واقعة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية، ووقائع أخرى، ونشرت في هذا المكان ردودًا- من وجهة نظري- على ما قال ورد على، وكررت الرد عليه، فوجئت بعدها بخطاب شخصي منه، رقيق وطويل، يقول فيه- بعد كلمات تقدير كريمة منه- خلاصته أنه يفضل لو نقلنا الحوار إلى لقاء شخصي وحوار متبادل بطريقة لا تبلبل الناس ولا تستثير مشاعر متناقضة.

 

وما زلت أحتفظ بهذا الخطاب، معتزًا به، وبلهجة الاحترام مع الخلاف الذي تنطوي عليه، لا لأنه من عادتي الاحتفاظ بالأوراق الشخصية، فأنا شديد الإهمال في ذلك، ولكن لأنني أحب أن أظهره لبعض من لا يعرفون من الخلاف السياسي إلا اللدد في الخصومة والعناد في الحوار، الأمر الذي ينقص ساحتنا العربية كتابةً وخطابةً وصحافةً وإذاعةً إلى حد مرضي تعيس!

 

ولم نلتق، فبعد أسابيع كنت في حجرة مستشفى المقاولون العرب واكتشفت أن المرحوم الشيخ عمر التلمساني في الحجرة الملاصقة لي، اكتشف هو ذلك قبلي، فكان بعض زواره يمرون على للتحية قائلين إنهم يحملون معهم تحية الشيخ عمر التلمساني.

 

وقال الأستاذ محمد حامد أبو النصر- المرشد العام-:-

لقد افتقدنا مجاهدًا عظيمًا، ومرشدًا عظيمًا، ومرشدًا راشدًا، حمل الأمانة ونصح للأمة، وأدى الرسالة على أكمل الوجوه، في ظل ظروف صعبة وقاسية ومريرة، ولن نهدأ نحن الإخوان المسلمين حتى نرى شجرة الإسلام قد نمت وترعرعت، لقد كان رحمه الله عف اللسان، عف القلم، عف السلوك.

 

وقال الشيخ محمد عبد الحميد كشك- الداعية الإسلامي الكبير:-

الراحل الكريم، يرحم الله جهاده، ويرحم الله صبره بعد الإرهاب والسجون والمعتقلات، ظل في السجون سبعة عشر عامًا فما لانت له قناة، وما انحنى إلا لله، وما ركع إلا لمولاه، وما سجد إلا للواحد الديان، يا عمر نم هادئًا بجوار الحق سبحانه، نم إلى جوار ربك بعد أن صبرت واحتسبت.
نشهد أنك والحمد لله قد صبرت واحتسبت وبلغت وأديت فإلى جوار الله في جنات ونهر.

 

وقال الدكتور الحبر نور الدين- مراقب عام الإخوان المسلمين في السودان:-

رحم الله عمر التلمساني الذي قاد دعوة عالمية لا تعرف تجزيئًا ولا تفريقًا، إنها الدعوة الربانية الأصيلة التي لن تموت أبدًا، فأصلها ثابت وفرعها في السماء، لقد كان رحمه الله الوجه الطلق البشوش، لقد كان الخلق الكريم، والأدب الجم، لقد كان ذا عزيمة لا تقاوم، وقناة لا تلين.

 

لقد كان يعامل الجميع معاملة الأب الرحيم الشفوق، وقد كان ينظر إلى الإخوة من السودان وغير السودان نظرةً واحدةً.

 

ولقد كتب الشيخ حافظ سلامة- الداعية المسلم وقائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس الباسلة:-

لقد اجتمعت الأمة بكافة ممثليها لتشييع قائد من خيرة قوادها فلم يحدث ما يعكر الصفو ويخدش الأمن، إنه عمر التلمساني الرجل الذي لم يضعف أمام جبروت السلطان.

 

لقد عاش الرجل في سبيل دعوته كل حياته، ولقد مرت به وبإخوانه وتلاميذه ومريديه الكثير من المحن ومع ذلك ظل صابرًا محتسبًا.

 

وذكر الدكتور عبد الصبور شاهين- ممثل هيئة التدريس بجامعة القاهرة:-

 الصورة غير متاحة
 د. عبد الصبور شاهين

لقد كان عمر التلمساني رجل المرحلة، فقد كانت الدعوة قد أساء إليها أعداؤها أيما إساءة، فجاء عمر التلمساني ليطرح على الدنيا وجه الدعوة المشرق فكان صورةً حيةً من صور التسامح والتوازن والاعتدال، صورة الصدر الذي يتسع لسفاهات الأعداء، ولست أنسى يوم واجه السادات وقال له: إني أشكوك إلى الله.
 

وقال الأستاذ محمد رزق المحامي- مندوب نقابة المحامين المصريين:-

إن انتساب سيدي وأستاذي الفقيد الذي كان يفيض رقةً وعلوًّا كان شرفًا لنقابة المحامين، إن الأستاذ عمر مات جسده من سنوات ولكن قلبه حي وروحه حية فلم يستسلم للضعف وظل يدعو إلى الله إلى أن سقط وهو في الميدان، اعتقل وعذب، ولكنه خرج أقوى من الحكومة.

 

إن جماعة الإخوان ليست بحاجة إلى أن تعود بقانون.. فجنازة الراحل الكريم كانت استفتاءً على شرعيتها القانونية، والمحامون يشرفون بانتساب التلمساني إلى نقابتهم.

 

ويقول الأستاذ محمد سعيد عبد الرحيم في كتابه (عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين):-

 ".. هلك الطاغية وخرج المعتقلون الذين قضوا في السجون سنوات طويلة، خرجوا وقد صقلتهم المحنة فقويت نفوسهم واشتدت عزائمهم، لئن كانت أبدانهم قد وهنت فإن أرواحهم أصبحت أكثر تعلقًا بما عند الله واستصغارًا لكل عرض زائل، وانتفى من قلوبهم الخوف، خرجوا من المحنة رجالاً كالجبال في شموخهم وصمودهم، في السجن حفظوا القرآن الكريم ونهلوا من العلم، وفي السجن تغلبوا على شهوات أنفسهم، وفي السجن خبروا الناس وعرفوهم على حقيقتهم، لقد كان السجن لهم مدرسةً أي مدرسة، أعطتهم أكثر مما أخذت منهم، ومن هؤلاء الرجال خرج الأخ عمر التلمساني.

 

إن الله سبحانه قد أعده ليقود الجماعة في هذه المرحلة، فكان هو القائد المناسب الذي قاد السفينة وسط الأعاصير بحكمة وصبر، ولين وأناة مع إيمان ثابت وعزم لا يلين، لقد انتشرت الدعوة في عهده انتشارًا لم يسبق له مثيل، وأقبل الشباب على الإسلام، حتى أصبح التيار الإسلامي هو التيار الغالب في الجامعات وفي النقابات، بل في مصر كلها؛ لأنه استطاع أن يقود السفينة بخبرة القائد المحنك، ومهارة الربان القدير، وتمكن من أن يجتاز بها المزالق والمخاطر ويوصلها إلى بر الأمان.

 

لقد عاش رحمه الله كل المحن وقضى في سجون مصر قرابة عشرين عامًا، وكان من أكثر الإخوان صبرًا وجلدًا على تعذيب الزبانية في السجون، ومع ذلك ورغم قسوة العذاب وسوء المعاملة كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله ودعوة إخوانه إلى الصبر والثبات، وكان كذلك عفّ اللسان لم تُسمع منه كلمة نابية في حق جلاديه وظالميه، وإنما كان يوكل أمرهم إلى الله فهو حسبه ونعم الوكيل.