ما إن فرغنا من صلاة العيد حيث استمعنا إلى خطبة تحضّ على الجهاد والاستشهاد، وتدعو إلى رص الصفوف في مواجهة العدو الصهيوني، والاعتصام بحبل الله جميعاً، والتمسك بالوحدة الوطنية في خندق المقاومة، وعدم الالتفات لأصحاب الدعوات المنهزمة الذين شغلتهم مصالحهم الشخصية عن الحقوق الوطنية المشروعة، فقدّموا ذواتهم على المصلحة الوطنية العليا.

ولم ينسَ خطيبنا توجيه إدانة قوية إلى ما يسمى بوثيقة سويسرا أو وثيقة جنيف المتهافتة الرخيصة، كما لم ينسَ الإشادة بما قام به أبناء الشعب الفلسطيني من تبرعات سخية بلغت مئات الآلاف من الدولارات لصالح الأيتام والأرامل والثكالى في حملة عظيمة نظّمتها المؤسسات الخيرية الإسلامية حماية لشرائح واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني من غول الفقر خاصة ونحن على أعتاب عيد الفطر المبارك بعدما أقدمت السلطة الفلسطينية على خطوة مستنكرة غير مبررة ومستهجنة تمثّلت بتجميد أرصدة المؤسسات الخيرية الإسلامية التي لعبت دورا أساسياً و هاماً في تصميد الشعب الفلسطيني على مدى أعوام الانتفاضة العجاف، وللأسف الشديد أن السلطة لم تقدِم على هذه الخطوة إلا استجابة لرغبة العدو الصهيوني، وتلبية لإملاءات الحقد الأمريكي بهدف المس بصمود الشعب المنتفض، وتقويض جماهيرية الحركة الإسلامية المجاهدة التي نذرت نفسها لخدمة القضية والشعب..

أقول ما إن فرغنا من الصلاة حتى أخذ المصلّون يصافح بعضهم بعضا، ويعانق بعضهم بعضًا في مشهد إسلامي رائع، تغمُرهم مشاعر الحب والأخوة في الله، ثم انطلقت جموع المصلين في مسيرات عظيمة يطوفون على بيوت الشهداء والمصابين والمعتقلين قبل أن يفكّر أحدهم في زيارة أقاربه ورحمه، إنه الوفاء لأولئك الأبطال الذين ضحّوا بأرواحهم، أو بصحتهم، أو بحريتهم من أجل فلسطين، ومن أجل شعب فلسطين، بل دفاعًا عن كرامة الأمة، ودفاعا عن ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها الواعد.

ومما يسترعي الانتباه أن آلاف الأطفال في سن الزهور بعد أن أدّوا الصلاة انطلقوا يمرحون في الشوارع ابتهاجا بالعيد فرحين سعداء ، نسبة كبيرة منهم هم من أبناء الشهداء، لم يبدُ عليهم أثر من الحزن أو الكآبة ، كأنهم لم يفقدوا آباءهم من قبل أو يفتقدوا حنانهم في العيد، كم كان الأمر غريبًا ومذهلاً، ولكن من رأى يوماً أعراس الشهداء لا يعجب من هذا الأمر، فأطفال الشهداء في فلسطين يشعرون بالفخر والاعتزاز أنهم أبناء الشهداء، وهذا الشعور الغامر يكفي لمسح الهموم والأسى الذي قد يجد طريقه إلى قلوبهم، ناهيك عما يلقونه من حبّ وتقدير من كافة أبناء الشعب في فلسطين، وهذا كفيل بأن يبعد عن أحدهم شبح الشعور بمرارة اليتم أو جوى الحرمان..

إن القهر والظلم والحقد الذي يحيط بشعبنا المرابط في فلسطين لم يحُلْ دون أن يمرح و يلهو أبناء الشهداء في العيد، إن ما قام به اليهود من إرهاب تمثّل في حصد أرواح الآلاف من أبناء شعب فلسطين لم ينجح في سرقة الابتسامة من شفاه أبناء ضحايا الإفساد والإرهاب اليهودي، لم يكن ذلك لأننا نعشق الموت، فنحن نحب الحياة في الوقت الذي لا نخشى فيه الموت في سبيل الله، ولكن هناك ما هو أصعب على النفس من وقع الحسام المهند، وهي الحياة المنغمسة في الذلّ، فنفوس الأحرار الأباة في فلسطين تستنكف أن تعيش مسلوبة الكرامة في ظلّ الاحتلال الصهيوني للشعب و للوطن ، و من هنا فإننا نشعر أن ما نحن فيه من جهاد ما هو إلا وسام شرف يزيّن جبين كلّ طفل و شاب و شيخ و امرأة في فلسطين ، كما أننا نشعر أن فضل الله يغمرنا و نعمته قد أسبغها علينا و قد أفاض علينا من معين حبّه الذي لا ينضب و هو القائل سبحانه (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4)، كما أننا نؤمن أن المعاناة التي نعيش هي السبيل الوحيد لتحقيق النصر و التمكين و استرداد ما اغتصب من حقوق وطنية..

فلا غرابة أن ترى في فلسطين الدموع وقد امتزجت بالزغاريد، ولا عجب أن تلمس هنا أن الشعور بالكبرياء قد استعلى على الإحساس بالمرارة والألم، فمن يرى الفرحة التي تعمّ الشارع الفلسطيني صبيحة العيد ابتهاجًا بقدومه لا يمكن أن يخطر بباله أننا الشعب الذي يشيع الشهداء في كلّ يوم زرافات و وحدانًا، ولا يمكن أن يصدّق أن في كلّ بيتٍ من بيوتنا مأساة تأخذ بتلابيب القلوب، فكم من بيت غاب عنه محيّا الوالد وقد احتوشه الثرى فترك من خلفه أرملة، وزغبًا من الأيتام.

فلا يكاد يخلو بيت في فلسطين من والد أو ولد أو أخ أو أخت أو أم قد غيّب عن الوجود بفعل الوحش اليهودي الصهيوني المجرم، أو معتقل أمضى حياته خلف القضبان الصهيونية القاسية، أو معوّق كان يرفل يوماً بالصحة و العافية يجوب البلاد طولاً وعرضا في حيوية ونشاط، ولكنه في غمرة حقد أسود أمسى بلا ساق تحمله، أو ذراع تعينه على خدمة نفسه، أو بات مكفوف البصر، أو مشلولاً لا يستطيع حراكا، ناهيك عن آلاف الأسر التي تبيت على الطوى لا تجد ما تسكن به عضة الجوع، ولا يكاد يخلو بيت في فلسطين من مرارة الحرمان من رؤية عزيز يتقلب على الجمر في المنافي منذ عشرات السنين بفعل الوحش اليهودي المجرم.

هكذا هو الحال في فلسطين في كلّ بيت مأساة وفي كلّ زاوية كارثة أو مصيبة، هذا ما فعله الأشرار من الصهاينة اليهود الذين اقتلعوا شعبنا من وطنه بقوة السلاح، ولم يكن إلا شعبا أعزل لا يملك ما يدفع به الأذى عن نفسه أو يحمي به الوطن، وقد ارتكب الإرهابيون الصهاينة أبشع المجازر بحقّه ، و التي أودت بحياة عشرات الآلاف من أطفالنا ونسائنا وشبابنا وشيوخنا، وأدّت إلى تشريد الملايين من أهلنا أصحاب الأرض الشرعيين من وطنهم ليعيشوا المرارة و الحرمان على مدى ما يزيد عن ستة وخمسين عاما.

هذه هي معالم العيد في فلسطين.. فكلّ التحية و التقدير لشعبنا المرابط على ثرى الوطن أو على حدوده، وكلّ التحية لأرواح الشهداء، وللمعتقلين البواسل، وللمصابين الصابرين على الجراح، وأعظم تحية للوطن تغمره من بحره إلى نهره.. وكل عام و أمتنا بخير.