كشف البنك المركزي المصري في تقريره السنوي عن بيانات ميزان المدفوعات للعام المالي 2018/2019، عن تراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 1.8 مليار دولار، وبنسبة 23%، مسجلا 5.902 مليار دولار، مقارنة بـ7.719 مليار دولار في العام المالي السابق له.

وأرجع البنك المركزي هذا التراجع إلى ارتفاع الاستثمارات المتدفقة إلى الخارج بصورة أكبر من دخول المستثمرين الأجانب إلى مصر.

وسبق تقرير البنك المركزي تقرير آخر للبنك الدولي عن مناخ الأعمال، احتلت فيه مصر المركز الـ160 بين الـ190 دولة، شملها التقرير، فيما يتعلق بعمليات إنفاذ العقود، ومنحها 5.5 درجة، من إجمالي 18 درجة، فيما يتعلق بجودة إجراءات التقاضي بالقضايا الاقتصادية.

يأتى هذا التراجع رغم إعلان حكومة الانقلاب على لسان "وزيرة الاستثمار" بها سحر نصر أن مصر تستهدف جلب 20 مليار دولار سنويا كاستثمارات أجنبية، وكان ذلك في أعقاب الترويج للإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها حكومة الانقلاب؛ لدعم مناخ الاستثمار المحلي والأجنبي، التي كان أبرزها إصدار قانون جديد للاستثمار، وإصدار قوانين الشركات وسوق المال والإفلاس، وأخيرا إصدار قانون التراخيص الذي اختصر فترة الانتظار للحصول على تراخيص صناعية، من أجل تأسيس منشآت جديدة، من 600 يوم إلى فترة تتراوح بين 7 و 30 يوما.

من جانبه، أرجع الخبير الاقتصادي أحمد ذكر الله الانخفاض في صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى عدة أسباب، أبرزها استمرار أسعار الفائدة عند مستوى مرتفع، وتراجع حجم الطلب في السوق المصرية بعد إجراءات برنامج الإصلاح المزعوم مع صندوق النقد الدولي، التي أثرت على القوة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى التأثر بما يحدث من تطورات في الأسواق الناشئة، والازدياد المضطرد لأنشطة الجهات السيادية الاقتصادية، ويسبق كل ذلك التوترات السياسية الداخلية والانقسام المجتمعي الحاد، الذي دأبت السلطة على تغذيته، بالإضافة إلى تصدير صورة الدولة التي تواجه الإرهاب نيابة عن العالم، في كل خطابات الدولة محليا ودوليا.

مزاحمة الجيش

وقال ذكر الله: في تقديري أن كل العوامل السابقة ستظل ذات تأثيرات سلبية على الاستثمار الأجنبي خلال الأعوام القادمة، ولكن تبقى ثلاثة عوامل رئيسية تشكل الوزن النسبي الأكبر في هذا التراجع، وهي تراجع النمو الاستهلاكي، ومزاحمة الجيش للقطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية، وأخيرا التوتر السياسي الداخلي.

وأوضح أن نجاح الإجراءات الاقتصادية في استقطاب استثمارات أجنبية غير بترولية يتوقف على قدرة حكومة العسكر على استعادة النمو الاستهلاكي الذي لا يزال منخفضا، فلكي يتخذ المستثمر الأجنبي قرارا بالاستثمار المباشر في قطاع غير بترولي، لا بد أن يطمئن إلى أن هناك تعافيا في نمو الاستهلاك، يضمن تصريف جزء من منتجاته داخليا، وأن فرص النمو في الصناعة حقيقية، وليست مجرد وعود زائفة.

وأشار ذكر الله إلى أن حجم السوق لا يقاس بعدد السكان، ولكن بمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي. وهنا نجد أن السوق المصرية ليست جاذبة للعديد من المستثمرين، خاصة بعد تطبيق الحكومة برنامج صندوق النقد الدولي، الذي أسهم مع تعويم الجنيه في إفقار المصريين وتآكل قدرتهم الشرائية .

وأكد أن استمرار تغول الجيش على النشاط الاقتصادي ومزاحمته للقطاع الخاص، له الكثير من التأثير السلبي على الاستثمار المتدفق إلى مصر، فالرسالة التي استقبلها الجميع في الخارج والداخل، أنه لا عمل ولا أرباح إلا من خلال المؤسسة العسكرية وأذرعها الأمنية، وأن غضب تلك الأجهزة قد يأكل كل ما تحقق سابقا من أرباح، بل قد يقضي تماما على الشركاء، وأنه لا مجال لمقاضاة هؤلاء في ظل السيطرة التامة على السلطة القضائية، التي تعاني أساسا بطء الإجراءات.

مشاكل مزمنة

وأضاف: كل ما سبق، بالإضافة إلى المشاكل المزمنة التي تواجهها الاستثمارات في مصر، بما في ذلك البيروقراطية وبعض التعقيدات التشريعية، واستغراق وقت طويل للحصول على التراخيص اللازمة؛ تلك المعوقات ليست جديدة، موضحًا أن الانقسام المجتمعي الداخلي الذي أنتجه نظام العسكر يعد وضعًا كارثيًا على البيئة الاقتصادية، ليس فقط في مجال تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، بل على مجمل الأوضاع المجتمعية، تضاف إلى ذلك تداعيات بدء ملء سد النهضة، التي في أفضل التقديرات ستنقص ربع حصة مصر من المياه لمدة خمس سنوات على الأقل وستؤدي إلى تبوير آلاف الأفدنة، وستجر البلاد إلى منعطف خطير؛ ربما لم تفطن السلطة الحالية إليه في ظل انشغالها بالأزمة الداخلية.

واختتم ذكر الله بالقول: كل العوامل السابقة مرشحة للاستدامة خلال العام القادم، وذلك يعني أنه لا تحسن يذكر سيطرأ على أرقام الاستثمار الأجنبي الوارد إلى مصر، مؤكدا أن هذا ما يزال أحد الأرقام الكاشفة عن خطأ الطريق، وفقدان البوصلة. والوقوع في فخ التعالي عن تناول الحقائق والتعاطي معها، وهذا سيدفع بالجميع نحو الهاوية.

المؤسسة العسكرية

وعن أسباب تراجع الاستثمار الأجنبي خلال العام المالي الماضي بنحو 23%، أكد الدكتور محمد العقدة، الخبير الاقتصادي، أن سيطرة الجيش على الحياة الاقتصادية تأتي في المقام الأول.

وأوضح أن اقتحام المؤسسة العسكرية للمجال الاقتصادي يجعلها بيئة طاردة للمستثمرين سواء على الصعيد المحلي أو الأجنبي، وذلك لانعدام تكافؤ الفرص.

وأشار العقدة إلى تباين التقديرات بشأن حجم الدور الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد حيث يزعم عبد الفتاح السيسي أنه لا يتجاوز 3% من الاقتصاد المحلي، في حين تشير تقديرات غير رسمية إلى أنه يزيد عن 50%.

وأكد أن الجيش يشرف على نحو 2300 مشروع، يعمل بها خمسة ملايين موظف مدني في جميع التخصصات، وفق ما أوضح المتحدث العسكري في وقت سابق، موضحا أن من الأسباب الأخرى لتراجع الاستثمار الأجنبي حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تشهدها مصر والمنطقة العربية، فضلا عن تراجع الاستثمار العالمي بشكل عام.

ولفت العقدة إلى أن الغلاء الناتج عما يسمى الإصلاح الاقتصادي أسهم بقوة في تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي؛ وذلك لانخفاض الطلب على السلع والخدمات نتيجة ضعف القوة الشرائية للجنيه المصري الذي أفقده قرار التعويم الكثير من قيمته.

منافسة ظالمة

ويرى د. وليد مسعود، خبير التمويل الدولي، أن هناك العديد من الأسباب وراء تراجع الاستثمار الأجنبي، بعضها سياسية، وأخرى متعلقة بالبنية التشريعية والأداء الحكومي، رغم حوافز الاستثمار التي قدمتها حكومة العسكر في تعديلات قانون حوافز الاستثمار عام 2017.

وأوضح مسعود أنه فيما يتعلق بالأسباب السياسية، فان سيطرة الجيش على المشروعات الاقتصادية، كفيل بهروب الاستثمار الأجنبي؛ لأن المستثمر يجد نفسه في منافسة ظالمة، مع مؤسسة لها قوة سياسية وعسكرية واقتصادية، وتحصل على إعفاءات ضريبية وجمركية لا تتحق له، بالإضافة لعامل الخوف من الدخول معها في أزمات أو مشاكل، لأنه في هذه الحالة سيكون عرضة للاعتقال أو مصادرة أمواله على أقل تقدير.

وقال: "جذب الاستثمارات الاجنبية، يتطلب استقرارا سياسيا، ومنافسة متكافئة، وقوانين يتم احترامها من جميع الأطراف، ووقوف الحكومة على مسافة واحدة من جميع المستثمرين، سواء المحليون أو الأجانب، وهي أمور لا تتحقق في ظل سيطرة الجيش على السياسة والأمن والقضاء والإعلام، قبل سيطرته على الاقتصاد".

وذكر مسعود أنه في مقابل ما سبق، فإن هناك أسواق منافسة بالمنطقة العربية والقارة الأفريقية، لا تشهد البيئة الاقتصادية والسياسية فيها نفس المشاكل والتخوفات الموجودة بمصر، مثل إثيوبيا ورواندا وكينيا وبنين بالقارة الأفريقية، وتونس والمغرب والإمارات في المنطقة العربية.

وأكد أن حكومة الانقلاب لم تقم بجهد حقيقي لجذب الاستثمارات الأجنبية في القطاعات غير البترولية، باعتبارها المقياس الحقيقي لقوة جاذبية الدولة لرأس المال الأجنبي، موضحا أن الواقع يشير لكارثة، حيث تراجع الاستثمار الأجنبي في غير المواد البترولية، لأدنى مستوى له في السنوات الماضية، بوصوله إلى 400 مليون دولار، في الربع الأول لعام 2019، مقابل 720 مليون دولار، في الربع الأول لعام 2018.