لم تعد جائزة نوبل العالمية تمثل موقفا إنسانياً ينحاز للقيم العليا والأخلاق والسلام، وخاصة في جوائزها التي تمنح للأدباء والسياسيين ورجال النشاط العام. فقد سبق أن منحتها بعض الأشخاص الذين تجردوا من الإنسانية وولغوا في الدماء وسرقوا حقوق الآخرين ويعملون على حرمان الشعوب من حق الحياة. فقد منحوها مثلا للإرهابي مناحم بيجين، والسفاح شيمون بيريز، والعنصرية القاتلة أون سان سو تشي- رئيسة ميانمار(بورما)،وأخيرا وصلت إلى رئيس وزراء إثيوبيا الذي يصرّ على حرمان الشعب المصري من حقوقه في مياه النيل ليموت عطشا!

في مجال الأدب كانت الجائزة تعطى أحيانا لأدباء مغمورين، لا يمثل إنتاجهم الأدبي قيمة كبيرة، وولاؤهم للثقافة الغربية أو الصهيونية، وفي هذا العام منحت لشخص عنصري فاشي، صفق لجرائم الحرب التي ارتكبها الصرب الصليبيون المتعصبون ضد مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا. ولم يكتف بالتصفيق بل دافع عنهم وعن جرائمهم، وشيع جنازة أكبر سفاح صربي وهو سلوبودان ميلوسيفيتش، وشهد لتبرئته أمام محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي بعد أن عبر عن تعاطفه معه ووقوفه إلى جانبه.

المفارقة أن رعاة الجائزة يرون أنفسهم غير مسئولين عن سلوك الفائز أو أفكاره ولو كانت ضد الإنسانية، ولا مجال عندهم لسحب الجائزة من فائز يضرب بأهداف الجائزة عرض الحائط، فإن رئيسة ميانمار مثلا الفائزة بجائزة السلام، تقود حكومة تمارس التطهير العرقي ضد مسلمي الروهينجا وتطردهم خارج الحدود بعد أن تقتل منهم ما تستطيع، ولكن هيئة الجائزة تتنصل من مسئوليتها، وترى أنها منحت الجائزة، وانتهى الأمر.

العالم الغربي في جوائزه الأقل يقوم بسحب الجائزة من بعض الفائزين إذا قيل مثلا إن أحدهم معاد للسامية، ولو كان ساميا، أو إنه يؤيد مقاطعة الكيان الصهيوني الدموي الذي يحتل فلسطين ويستعبد أهلها... فقد انتشرت، أخيرا فى ألمانيا، ما يمكن أن نطلق عليه، فوبيا منح الجوائز للمعترضين على الممارسات الإجرامية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. وفى أقل من أسبوعين (أكتوبر 2019) قامت جوائز تمنح في ألمانيا بسحب الجوائز الأدبية والفنية من فائزين ارتكبا في زعم المانحين جريمة دعم حركة مقاطعة الكيان الصهيوني الغاصب.

في الواقعة الأولى أعلنت جائزة "نيللي ساكس" عن فوز الكاتبة البريطانية من أصل باكستاني كاميلا شمسي، بالجائزة من قبل مدينة دورتموند يوم 10 سبتمبر 2019م، قبل أن يصدر منظمو الجائزة بيانا، فى نهاية الشهر نفسه، قالوا فيه إن هيئة المحلفين غيرت رأيها بتكريم كاميلا شمسي، وأن جائزة 2019م لن تمنح هذا العام.

وقال بيان صادر عن الجائزة، إن هيئة المحلفين قررت منح الجائزة للكاتبة كاميلا شمسي لعملها الأدبي الرائع دون أن يكون أعضاء لجنة التحكيم على علم بأن المؤلفة شاركت فى إجراءات المقاطعة ضد حكومة الاحتلال بسبب ممارساتها ضد الفلسطينيين منذ العام 2014م.
وقد أدانت كاميلا شمسي القرار فى بيان نشره موقع ميدل إيست آي، وقالت إنها شعرت بالحزن بسبب خضوع هيئة المحلفين للضغوط.\

أما الواقعة الأخرى فتمثلت في قيام مدينة آخن الألمانية بإعلان نيتها سحب جائزة منحتها للفنان اللبناني وليد رعد بسبب دعمه لحملة مقاطعة الكيان الصهيوني.

ولحسن الحظ فقد وجد الفنان اللبناني من يدافع عنه، ويقف في وجه سحب الجائزة لأسباب موضوعية. كان رئيس بلدية المدينة، مارسيل فيليب، أعلن فى بيان رسمي أنّ سبب سحب الجائزة التي تبلغ قيمتها عشرة آلاف يورو هو دعم وليد رعد لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، والضغط على حكومة الاحتلال لمنح المساواة للمواطنين الفلسطينيين. وقد رفض "مجلس لودفيج للفن الدولي" تنفيذ القرار، معلنًا أن جائزة عام 2018م ستظل حاملةً لاسم وليد رعد. وأعلن المجلس أنّ أعضاءه لم يتمكّنوا من العثور على أى دليل يثبت أن رعد كان معاديًا للسامية، وفى مقابلة مع المجلة الألمانية "Deutschlandfunk"، قال المدير التنفيذي للمجلس إن المتحف حصل على الدعم والتمويل لمنح الجائزة، ولم يكن بحاجة إلى إذن من بلدية المدينة لتقديمها لرعد.

بيد أن حصول الكاتب المسرحي والروائي والشاعر النمساوي بيتر هاندكه على جائزة نوبل في الأدب لهذا العام 2019م، كان وصمة عار في تاريخ الجائزة ومانحيها، وقد أثار موجة كبيرة من الغضب والحنق لدى أصحاب الضمير الإنساني في الأوساط الأدبية العالمية والمحلية. لقد سوّغت الأكاديمية السويدية اختيار هاندكه بأنه جاء تقديرًا "للعمل المؤثر الذي اكتشف براعة لغوية في أعماله وخصوصية التجربة الإنسانية"، وتجاهلت الجائزة تاريخ هاندكه وتجربته في دعم الصرب الذين فجّروا حرب يوغسلافيا العنصرية الدموية في التسعينيات، وإنكار المذابح الوحشية التي تمت في هذه الحرب، وهو ما عدّه كثيرون أمرًا غير خلقي وغير قابل للتبرير، فهو قريب جدًا من الزعيم الصربي العنصري السابق سلوبودان ميلوسيفيتش، ونفى ذات مرة المذبحة الصربية في سريبرينيتشا، وقارن مصير صربيا بمصير اليهود خلال الهولوكوست، مع أنه اعتذر في وقت لاحق عما وصفه بـ "زلة اللسان".

وهناك سؤال تم طرحه بعد إعلان الأكاديمية السويدية عن فوز هاندكه: لماذا استبعدت اسمه طوال سنوات؟ وما الذي استجد الآن ليجعلها تغيِّر موقفها؟ وهل يمكن أن يكون هذا الاختيار أحد تداعيات صعود اليمين الصليبي المتطرف في أوروبا؟ وماذا لو كان الكاتب متعاطفًا مع خصوم السامية مثلًا هل سينال الجائزة؟ وإلى أي درجة تشفع الأعمال «التي غاصت في عمق التجربة البشرية، مدعومة ببراعة لغوية» مساندة الفاشية أو الوحشية في أعتى صورها؟

لقد قوبل فوز هاندكه بموجة انتقاد ورفض واسعة، ومن العجيب أنه نفسه اندهش من الفوز، و قال عقب فوزه بالجائزة إن هذا القرار "شجاع جدًا من قبل الأكاديمية السويدية". وقد أعرب الناقد رون شارليز، في صحيفة الواشنطن بوست، عن استيائه من الجائزة قائلًا عن محاولات الأكاديمية استعادة الثقة في الجائزة: "هذه ليست الطريقة المثالية لإظهار الحكم الجيد أو لاستعادة الثقة، إنها مجرد حيلة صماء أخرى من قبل مجموعة من السويديين الذين يستحوذون على انتباه غير متناسب وغير مستحق من العالم." مشيرًا إلى أن الجائزة من المفترض أن يكون لها دور كبير في تسليط الضوء على الأدباء من الأماكن التي لا تحظى بالمتابعة الكافية على الرغم من وجود قامات أدبية بها، وكان من الممكن الاحتفاء بهم وبالتالي إعادة الثقة في المؤسسة. ونقل الموقع الالكتروني لهيئة الإذاعة البريطانية BBC ما كتبه وزير خارجية ألبانيا "جنت كاكاج" على تويتر: "إن الجائزة كانت مخزية وتم منحها لـ "منكر للإبادة الجماعية"، وما كتبه رئيس الوزراء الألباني "إدي راما": "لم أفكر أبدًا في أنني سأشعر بالتقيؤ بسبب جائزة نوبل"، بينما قال رئيس كوسوفو "هاشم باتشي": "قرار جائزة نوبل جلب ألمًا هائلًا إلى عدد لا يحصى من الضحايا".

ومن الطريف أن جريدة الجارديان في عام 1999م، نقلت وصف الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي لبيتر هاندكه بـ "معتوه العام الدولي" على خلفية "سلسلة من اعتذاراته العاطفية عن نظام الإبادة الجماعية الذي نفّذه سلوبودان ميلوسيفيتش"، وبعد الإعلان عن فوز هاندكه بنوبل، نشرت الصحيفة ذاتها تصريحا لرشدي قال فيه: "ليس لدي ما أضيفه اليوم ، لكنني سأبقى على ما قلته سابقًا".( يشير إلى تصريحه السابق عام 1999م).

قال المؤلف هاري كونزرو: "هاندكه خيار مضطرب بالنسبة للجنة نوبل التي تحاول وضع الجائزة على المسار الصحيح بعد الفضائح الأخيرة، إنه كاتب جيد، يجمع بين البصيرة العظيمة والعمى الخلقي المروع".

وحسنا فعل الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الذي أصدر بيانا يرفض فيه منح جائزة نوبل فى الآداب لعام 2019م للكاتب اليميني والمتطرف النمساوي بيتر هاندكه.

تجدر الإشارة إلى أن الجوائز الأدبية بصفة عامة، المحلية والعالمية، صارت رهينة بأهدافها غير المعلنة من الجهات المانحة، وهو ما نراه في حصول بعض من لا يستحقون علي الجوائز المرموقة والمتواضعة، ولعل القراء يذكرون ذلك الشاعر العربي الطائفي الذي ما زال يتقرب إلى مانحي نوبل بإهانة الإسلام وتجريمه على مدى تاريخه أملا في الحصول عليها، ولكنهم مازالوا ينتظرون منه المزيد! وقد صرح أحد الكتاب العرب ذات يوم أن من يعارض سياسة بلاده لن يحصل على الجائزة المرموقة التي تموّلها حكومته!

لقد صارت الجوائز الأدبية في كثير من أنواعها رشوة غير مقنّعة، لكسب الولاءات وتغيير الذمم، وتسويغ الوحشية!