أخْرَج الإمامُ أحمد عن أبي سعيدٍ الخُدْري عنِ النبي - عليه الصلاة والسلام - قوله: "الشِّتاء ربيعُ المؤمِن"، وزاد البيهقيُّ وغيرُه: "طال ليلُه فقامَه، وقصُر نهارُه فصامَه"، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "مرحبًا بالشِّتاء؛ تتنزَّل فيه البَرَكة، ويطول فيه الليلُ للقيام، ويقصُر فيه النهار للصِّيام"، وكان الفاروق عمر بن الخطاب حينما يأتي الشتاء يكتب لعماله على البلدان، قائلاً: "إن الشتاء قد حضر فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا" (لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي).

روى الترمذي في سننه عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ" وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟!، قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء (وصححه الألباني رحمه الله)، ومعنى الغنيمة الباردة: أي السهلة ولأن حرارة العطش لا تنال الصائم فيه. قال ابن رجب رحمه الله: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف". وثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: "الشتاء غنيمة العابدين". رواه أبو نعيم بإسناد صحيح وجاء في حديث حسن لغيره: "الشتاء ربيع المؤمن: طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". قال ابن رجب: "إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات ويُنْزِّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه".

وقد أكد السلف ذلك، وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكانوا يعتنون بالشتاء ويرحبون بقدومه ويفرحون بذلك ويحثون الناس على اغتنامه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام". ولله در الحسن البصري من قائل: "نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه"، وعن عبيد بن عمير- رحمه الله -: أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".

وها هو معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد بكى عند وفاته فقيل ما يبكيك، قال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر"، ولم لا وصلاة الليل هي من أفعال المتقين، قال تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة:16-17).

ولقد منَّ الله على عباده بنعمة الدفء وأنه خلق لهم سرابيل تقيهم البرد والعواصف والرياح (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (النحل: 5. ).

وفي الشتاء تنزل البركات وتنشر الرحمات من رب الأرض والسماوات قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ) [سورة الشورى:28 ] وفي سورة الأنبياء يقول: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَـوتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنبياء: 30]. يقول ابن عباس: "كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات".

وقد وصفه الله تعالى بالبركة: يقول سبحانه: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَاـرَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [سورة ق:9]. وصاحب القلب الحي يذكر الله في كل وقت وحين نزول المطر ويأتي بالسنن الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطَرٌ قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا، قَالَ: "لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى" [رواه مسلم]. وكذلك فإن من السنة إذا هطل المطر أن يقول المسلم "اللهم صيبا نافعا". وبعد نزوله يقول: "مُطرنا بفضل الله ورحمته". ومن أدعية الاستصحاء "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكامِ والظرابِ وبُطون الأودية، ومنابت الشجر". وجاء في حديث حسن: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر "والمسلم في الشتاء يتذكر نعم الله عليه فيشكرها ولا يكفرها وقد امتن الله علينا بأن خلق لنا سبحانه ما نتقوى به على شدة البرد فقال سبحانه: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]. فمن نعم الله علينا الأنعام التي سخرها الله لمصالح بني آدم ومن جملة منافعها العظيمة. أن (فِيهَا دِفْءٌ) قال العلماء: "ممّا تتخذون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها، وجلودها، من الثياب والفرش والبيوت". وقال سبحانه {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80].

من فقه الشتاء..

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط" رواه مسلم.. قال القاضي عياض: وإسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحوه، وقال ابن رجب: فإن شدة البرد لدينا يذكر بزمهرير جهنم، فملاحظة هذا الألم الموعود يهون الإحساس بألم برد الماء.

2- التبكير بصلاة الظهر عند شدة البرد.. عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد يكبر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. قال المناوي عن التبكير: أي بصلاة الظهر يعني صلاها في أول وقتها وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.

قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر من غير الحر والغيم خلافا، وقال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: لأن المقصود من الصلاة الخشوع والحضور وشدة البرد والحر مما يشغل المصلي.

3- لبس القفازين.. يجوز لبس القفازين وهو أحد أقوال الشافعي وبه قال النووي، وأما استدل بالمنع لحديث مسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) فيستدل به على كشف اليدين، والرد عليه أن الركبة كذلك مغطاة بلا ريب فلا حجة في ذلك، قال ابن جبرين: يجوز للرجال والنساء لبس القفازين في الصلاة فإنه يحتاج إيه لبرد ونحوه.

4- الخف ما يلبس على الرجل مما يصنع من الجلد
والجورب: ما يلبس عليها مما يضع من القطن ونحوه وهذا المعروف بـ (الشراب أو الدلاغ)
ثبت في السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين

وشروط المسح

1- ادخالهما بعد تمام طهارة الوضوء
2- أن يكون طاهرين من النجاسة
3- أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر لا الأكبر كالجنابة أو ما يوجب الغسل
4- أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعًا وهو يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر

توقيت المسح

1- يبدأ المسح من أول مسحه بعد الحدث وتنتهي بعد أربع وعشرين ساعة للمقيم واثنين وسبعين للمسافر لحديث علي : ( وقت لنا رسول الله في المسح للمقيم يومًا وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها ) رواه مسلم
2- اذا انتهت المدة وهو على طهارة مسحه لم ينتقض وضوءه .

صفة المسح

أن يمسح الخف أو الجورب من أعلاه من أطراف الأصابع إلى ساقه لقول علي (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه) رواه أبو داود
المسح على العمائم المحنكة في الحدث الأصغر

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على العمائم. رواه الترمذي

والعمائم هي عمائم المسلمين المحنكة –أي المدارة تحت الحنك– أو ذات ذؤابه –أي التي لها طرف مرخي– أما العمائم فلا يصح المسح عليها، ويدخل في العمائم ما يلبس في أسام الشتاء من القبع الشاملة للرأس والأذنين، وفي أسفله لفه على الرقبة فإنه مثل العمامة لمشقة نزعه ومثله خمار المرأة المدار تحت حلقه، وأما الغترة أو الشماغ أو الطاقية أو الطربوش فلا يسمح عليه لأنه لا يشق نزعه.

5- يباح الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، المغرب والعشاء في وقت أحدهما تقديمًا أو تأخيرًا للأعذار السابقة المسقطة للجمعة والجماعة ولو صلى الرجل في بيته إذا كان من أهل الجماعة، وأما المرأة والرجل المريض لا يصح جمعهم في بيوتهم.

والجمع رخصة عارضة للحاجة إليه لدفع المشقة عن المسلمين، ولذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرات قليلة، والحاجة والمشقة تختلف في تقديرها باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، لذلك قال ابن عباس: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر .. أراد ألا يحرج أمته) رواه مسلم.