من تراث الشيخ/ عبدالله ناصح علوان

الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده ومن الحق الذي يعتنقه ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به ومن القدر الذي يستسلم إليه ومن المسئولية التي يستشعر بها ومن التربية الإسلامية التي نشأ عليها.

وعلى قدر نصيب المؤمن من الإيمان بالله الذي لا يغلب وبالحق الذي لا يخذل وبالقدر الذي لا يتحول وبالمسئولية التي لا تكل وبالتربية التكوينية التي لا تمل بقدر هذا كله يكون نصيبه من قوة الجرأة والشجاعة وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم، ومن هنا كانت فضيلة الجرأة بالحق من أعظم الجهاد لما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، ومن هنا كان الذي يستشهد في سبيل كلمة الحق سيد الشهداء لما روى الحاكم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يأخذ العهد من أصحابه على أن يقولوا بالحق أينما كانوا فقد روى مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم".

ومن هنا كان امتداح الله سبحانه للذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا سواه، قال تعالى في سورة الأحزاب: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفى بالله حسيبًا)

وتاريخ الدعوة والدعاة مليء بسيرة رجال يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم..

وها نحن أولاء نسوق نماذج حية من مواقفهم الرائدة وبطولاتهم النفسية الخالدة عسى أن يتأسى بهم دعاتنا اليوم ويأخذوا بأحسنها:

أ- من مواقف العز بن السلام أنه قال مرة لسلطان مصر نجم الدين أيوب وكان عسى في مجلس حافل برجال الدولة يا أيوب!!.. ما حجتك عند الله إذا قال لك غدًا ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟

فقال: هل جرى هذا؟

فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وتستباح فيها المنكرات وأنت تقلت في نعمة هذه المملكة!!..

فقال: هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي!!..


فقال العز بن السلام: أنت من الذين يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)؟

فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة وإغلاقها.

ب- كان سلمة بن دينار المكنى بأبي حازم يدخل على معاوية فيقول: السلام عليك أيها الأجير فإذا حاولوا أن يقولوا لأبي حازم قل: السلام عليك أيها الأمير أبى عليهم ذلك ثم التفت إلى معاوية فقال له: "إنما أنت أجير هذه الأمة استأجرك ربك لرعايتها!!".

ج- لما أنشأ عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء في الأندلس أبدع في بنائها أيما إبداع وأنفق عليها من الأموال ما لا يكاد يعد ولا يحصى وبلغ من إنفاقه وتفننه في تزيينها أن أقام "الصرح الممرد" واتخذ لقبته قراميد من ذهب وفضة فما إن سمع بذلك الفقيه القاضي منذر بن سعيد حتى ارتاع لعمله، وغضب لتبديده أموال الشعب فوقف في المسجد يخطب الناس بحضور الناصر ويتوجه إليه باللوم والتأنيب وهو يقول: "ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين حتى أنزلك منازل الكافرين".!.

فاقشعر عبد الرحمن الناصر من قوله فقاطعه وقال له انظر ما تقول؟ كيف أنزلني الله منازلهم؟

قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون).

فوجم الخليفة ونكس رأسه مليًا ودموعه تجري على لحيته خشوعًا لله تبارك وتعالى ثم أقبل على القاضي وقال له: "جزاك الله تعالى يا قاضي خيرًا وعن المسلمين والدين وأكثر في الناس من أمثالك فالذي قلته والله هو الحق"، وقام من مجلسه وهو يستغفر الله وأمر بنقض القبة وأعاد قراميدها ترابًا!!..

د- وروى زياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلى والي طاووس أحد أفاضل العلماء في عصره فدخلنا عليه وبين يديه أنطاع قد بسطت (لود توضع تحت المحكوم عليهم بالقتل) وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا فأطرق عنا قليلا ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاووس فقال له: حدثني عن أبيك.

قال: نعم سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله".

قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني دمه فأمسك ساعة ثم التفت إليه أبو جعفر.

فقال: عظني يا ابن طاووس

قال: نعم يا أمير المؤمنين!!..

يقول الله تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم  يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد).

قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأ ثيابي من دمه!!.

فأمسك ساعة ثم قال: يا ابن طاووس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه.

فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟

قال ابن طاووس: أخشى أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها!!.

فلما سمع ذلك قال أبو جعفر: قوما عني!!

قال ابن طاووس: ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم!!.

قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.

هاء - وذكر الغزالي في حياته عن الأصمعي قال: دخل عطاء أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحوله الأشراف من كل بطن ذلك بمكة في وقت حجه في خلافته فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد، ما حاجتك؟

فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم!!.

فقال عبد الملك بن مروان: أجل أفعل ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك!!.

فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟

فقال: مالي إلى مخلوق حاجة!!.. ثم خرج.

فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف!!.

فما على الدعاة إلا أن يتأسوا بالسلف الصالح شجاعة وجرأة عسى أن يوجهوا الرأي العام إلى ما فيه جلب المصالح ودرء المفاسد وأن يتفاعلوا مع المجتمع في إعلان كلمة الحق دون أن تأخذهم في الله لومة لائم عسى أن يقوموا بالدور الكبير في البناء والإصلاح والتغيير والله سبحانه يثيبهم في الدنيا خيرًا ويدخر لهم يوم القيامة أجرًا ويحقق على أيديهم العزة للإسلام المجد للمسلمين والوحدة الكبرى التي تضم العالم الإسلامي كله تحت راية الخلافة الراشدة ولواء الحاكمية لله الواحد الأحد، وما ذلك على الله بعزيز.

وعلى الداعية في هذا المجال أن يميز بين الجرأة والغلظة فالجرأة شئ والغلظة شيء آخر، فالجرأة قول كلمة الحق ولا يحسب لهذه الكلمة أي حساب ولو أدت إلى المحنة والابتلاء ولا يمنع أن يكون الداعية في موقفه هذا رفيقا حكيما مع من ينصحه ويقوم اعوجاجه ويقول أمامه كلمة الحق..

بل الأصل في من يدعو ونصيحته من ينصح الرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة تحقيقا لقوله تبارك وتعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).

أما الغلظة فهي أن يبدأ من يريد إصلاحه وتقويم اعوجاجه ودعوته إلى الخير بالجفاء والفظاظة والشدة، وهذه المبادرة تورث لدى المدعو أو المنصوح له ردود فعل قد تؤدي به وبمن يدعوه إلى أسوأ العواقب ولا سيما إذا كان المنصوح له ذا مركز مرموق وسلطة قوية.

وتحضرني في هذه المناسبة هذه القصة: دخل واعظ إلى أبي جعفر المنصور وأغلظ عليه في الكلام، فقال أبو جعفر للواعظ: يا هذا، ارفق بي أرسل الله سبحانه من هو خير منك إلى من شر منى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون فقال له: (فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى).

فخجل الرجل مما بدر منه وعرف أنه لم يكن أفضل من موسى عليه السلام، وأن أبا جعفر لم يكن شرًا من فرعون.

نعم قد يكون في بعض مواقف الدعاة مما يلمح منها الشدة والجفاء كما يتبين من بعض الأمثلة التاريخية التي استشهدنا بها في هذا المقام، ولكن هذه الشدة أحيانا قد تكون لها مبرراتها وأساليبها كما رأينا من موقف القاضي منذر بن سعيد والعالم والي بن طاووس، فالأول: أنكر على من أنفق أموال الأمة وبددها في غير ما وضعت له، والثاني: ذكر بالله ومن بين يديه جلادون يضربون الأعناق فالموقف إذن يستدعي أخذ الأمور بالحزم وتوضيح المسائل بالصراحة عسى أن يكف الظالم عن ظلمه والمستهتر بمصالح الأمة وأموالها عن استهتاره، وهذا ما جعل الخليفة عبد الرحمن بالناصر أن يرد لبنات الذهب والفضة إلى بيت المال لصراحة القاضي منذر بن سعيد وما جعل الخليفة أبا جعفر المنصور أن يتذكر أو يخشى لتذكير العالم والي بن طاووس له بنهاية الطغاة ومصيرهم.

والذي أخلص إليه ما تقدم: أن الجرأة في الحق خلق محمود في الداعية وأن الأصل فيها الرفق واللين ولا سيما لمن يبدأ معهم في النصيحة والهداية والإصلاح اللهم إلا إذا دعت الضرورة أن يكون الداعية أكثر صراحة وأظهر حزما وأقوى اندفاعا وأدعى تبيانا، فلا بأس في صراحته وحزمه ولا مانع من اندفاعه وتبيانه بشرط ألا يخرج عن حدود الدعوة وبلاغ الحق وألا يتعدى حدود الحكمة وألا يسبب حدوث فتنة كما تبين من المواقف التي وقف فيها الدعاة والعلماء والمصلحون!!.

---------
من رسالة صفات الداعية النفسية للشيخ عبدالله علوان