بقلم: صادق أمين

أرسل أحدهم رسالةً للكِندي، يطلب فيها أن يضع كتابًا في دفع الأحزان، فوجَّه إليه برسالة بيَّن فيها أن كل ألم لا يُعرف سببُه لا يُرجى شفاؤه؛ ولهذا ينبغي بيان سبب الحزن ليمكن وصف الدواء منه. فالحزن ألمٌ نفسانيٌ ناتجٌ عن فقدِ أشياءَ محبوبةٍ، أو عن عدم تحقيق رغبات مقصودة.

والإنسان لا يستطيع أن يحصل على كل ما يرغب فيه، أو أن يكون بمأمن من فقد محبوباته، لأنه لا دوامَ لشيء في هذا العالم؛ لذا علينا ألا نرغب إلا فيما هو ميسورٌ لنا؛ لأن من يطلب ما لا يمكنه أن يناله يطلب ما لا يوجد، وعلينا ألا نأسف على ما يفلت منا، وعلينا أن نطلب ما هو ممكن إذا لم نجد ما نرغب فيه.

ومن يحزن لافتقاره إلى ما هو هالك لن يفنى حزنه أبدًا؛ إذ سيجد دائمًا أنه سيفقد صديقًا، أو محبوبًا، وسيفوته مطلوب.

وبعد هذا التقديم يقترح الكندي مجموعةً من الوسائل التي بفضلها يمكن دفع الأحزان، نذكر بعضها باختصار:

1- تقسيم الحزن إلى نوعين: حزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادتنا، وحزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادة الغير، فإن كان الأمر راجعًا إلينا فليس لنا أن نحزن؛ لأننا نستطيع أن نمتنع من السبب في هذا الحزن ونزهد فيه، وإن كان راجعًا إلى الغير فإما أن نستطيع التوقي منه أو لا نستطيع، فإن استطعنا فعلينا أن نحتميَ منه ولا نحزن، وإن لم نستطع فليس لنا أن نحزن قبل أن يقع؛ لأنه قد يحدث ألا يقع من فاعل سببه.

أما إذا كان حزننا من أمر لم يصبنا بعد فَلِمَ نجلب على أنفسنا حزنًا لم يدع إليه داع؟ ومن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن أحمق ظالمًا؛ ولهذا يجدر بنا أن لا ننتظر حتى يقع الدافع إلى الحزن وألا نستبقه، وإذا ما وقع فعلينا أن نقصِّر من مدة الحزن ما استطعنا، وإلا كان ذلك حمقًا وظلمًا.

2- أن نتذكر الأمور المحزنة التي تعزينا عنها منذ وقت طويل، والأمور المحزنة التي عاناها الآخرون وتعزوا عنها، ثم نعدُّ حالة الحزن الماثلة الآن مشابهةً لتلك الأحوال المحزنة الماضية والتي تعزينا عنها، وبهذا نستمد قوةً وصبرًا.

3- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن الرغبة في ألا نُصاب بشقاء هو كالرغبة في عدم الوجود؛ لأن المصائب تأتي من كوننا كائناتٍ فانيةً هالكةً، وإذا لم يكن هناك فساد لم يكن هناك كون، فإن أردنا أن ننجو من المصائب فإننا نريد بذلك ألا يكون هناك كون ولا فساد.. وهذا محال..!!

4- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن ما بين أيدينا مشترك بين الناس جميعًا، وأنه في حوزتنا على سبيل العارية فقط، وليس لنا من الحق فيه أكثر مما لغيرنا، ومن يملكه إنما يملكه طالما كان في حوزته فقط، ما هو في حوزتنا دائمًا هو الخيرات الروحية وحدها، وهي التي يحق للإنسان أن يحزن لفقدها.

5- وعلينا أن نتذكر أيضًا أن كل ما نملكه- مما هو ملك مشترك- هو لدينا بمثابة عارية ممن أعاره وهو الخالق، فله إذن أن يسترده كلما شاء ليعطيه لإنسان آخر، ولو لم يعطه لمن شاءه لما وصل إلينا أبدًا.

وإذا لم يسترد المُعير إلا أخس ما أعارنا فهو كريم معنا إلى أقصى درجة، وعلينا أن نسر بهذا غاية السرور؛ لأنه ترك لنا أشرف ما أعارنا، وعلينا ألا نحزن لما استرد، وتلك علامة دالة على حبه لنا وإيثاره إيانا.

6- وعلينا أن نفهم جيدًا أنه إذا كان ينبغي الحزن على المفقودات وما لم نحصِّله، فينبغي أن نحزن أبدًا، وفي الوقت نفسه ألا نحزن أبدًا، وهذا تناقض فاضح؛ لأنه إذا كان سبب الحزن هو فقد الممتلكات الخارجة عنا فإنه إذا لم تكن لنا ممتلكات خارجية لن نحزن؛ لأننا لن نفقدها ما دمنا لم نملكها، وإذن علينا ألا نملك شيئًا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه مسببًا للحزن.. لكن ألا نملك شيئًا هو مصدر دائم للحزن؛ ولهذا ينبغي أن نحزن دائمًا، سواء أقتنينا أو لم نقتنِ!! إذن يجب ألا نحزن أبدًا، وأن نحزن أبدًا!! وهذا محال، لكن علينا أن نقلل من ممتلكاتنا لنقلل من أحزاننا ما دام فقدها يولد الحزن.

7- حال الناس في عبورهم في هذا العالم الفاني حال خداعة، تشبه حال أشخاص أبحروا في سفينة إلى مكان هو مقامهم، فاقتادهم الملاح إلى مرفأ ألقى فيه مرساته للتزود بالمؤونة، وخرج الركاب للتزود ببعض الحاجات، فبعضهم اشترى ما يحتاج إليه وعاد إلى السفينة، وشغل مكانًا مريحًا فيها، والبعض الآخر لبثوا لمشاهدة المروج ذات الأزهار اليافعة والروائح الطيبة، ووقفوا يستمعون إلى الأطيار، ثم لم يجاوزوا مكانًا قريبًا من السفينة، ثم عادوا إليها بعد أن أشبعوا حاجاتهم، فوجدوا أيضًا أماكن مريحة فيها، وفريق ثالث انصرف إلى جمع الأصداف والأحجار، وعادوا مثقلين بها، فلما عادوا إلى السفينة وجدوا من سبقوهم قد احتلوا الأماكن المريحة، فاضطُّروا إلى شغل أماكن ضيقة، واهتموا بالمحافظة على الأحجار والأصداف التي جمعوها؛ مما أوقع الهمَّ في نفوسهم.

وفريق رابع وأخير توغلوا في المروج والغابات، ناسين سفينتهم ووطنهم، وانهمكوا في جمع الأحجار والأصداف والأزهار، ونسوا وطنهم والمكان الضيق الذي ينتظرهم في السفينة، ونادى الملاَّح على المسافرين، فلم يستطع هذا الفريق الأخير سماع ندائه، ورفع المرساة تاركًا إياهم معرضين للأخطار القاتلة: فبعضهم التهمته الوحوش الكاسرة، والبعض غارَ في الهُويِّ، وساخ بعضهم في الطين، وبعضهم عضته الأفاعي، وهكذا صاروا جيفًا نتنةً.. وهذا المثل ينطبق على حالنا في هذه الدنيا!! فعلينا ألا نشغل بما يؤدي إلى الأحزان من جمع الممتلكات، والانعكاف على الشهوات؛ حتى نستطيع أن نجد مكانًا فسيحًا في السفينة التي ستقلُّنا إلى الوطن الحق.

8- وأخيرًا يجب أن نتذكر- إذا أحسسنا بفقد شيء- ما بقي لنا من ممتلكات مادية وعقلية، ناسين مفقوداتنا الماضية؛ لأن تذكر ما يبقى لنا يعزِّينا عما فقدناه.