بقلم: صادق أمين

القلب محط نظر الخالق سبحانه وتعالى.. "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).

فالأصل في القلب.. صلاحًا وفسادًا، سلامةً وغشًا، نجاةً وخسارةً، إن أفسدتْه فسد الكلُّ- كما يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي (رحمه الله)، وإن أصلحته صلح الكل، فهو الشجرة، وسائر الأعضاء أغصانها، ومن الشجرة تشرب الأغصان، فتصلح أو تفسد؛ إذْ هو الملك، وسائر الأعضاء تبع وأركان، إذا صلح صلحت الرعية، وإذا فسد فسدت، فصلاح العَين واللسان واليد والرجل والبطن والفرج وغيره دليلٌ على صلاح القلب وعمرانه.. "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (رواه البخاري).

فأمر "القلب" خطير، بل في غاية الخَطر.. الأمر الذي يتطلب من العقلاء الالتفاتَ إليه، وفِقه أحكامه، وما يصلح شأنه، ويرتقي بمكانته، ويحفظ قيمته، ويؤكد أهميته.

فالإمام عبد القادر الجيلاني- رحمه الله- يجعل "فقه القلب" هو الأساس الذي يشاد عليه البنيان، وتقوم عليه الأركان، وما أسرع تهدُّم البنيان وانقضاض الأركان حين تقوم على فقه اللسان، الذي يكون بلا عمل القلب، فإنه لا يخطيك إلى الحق خطوةً.

ثم يؤكد أن السير إلى الله هو سير القلب، فمَن أهمل سيرَه ثم سار كان كمن أحكم بنيانه على غير أساس، فما ينفعه هذا الإحكام؟! فالتفريط في الأساس تفريط في البناء، ولا ينفع فيه استئناف ما دام الأساس مفقودًا، لكن إنْ أُحكم الأساس فمن السهل أن تجبرَ البناء، وتقوِّمَه.
ومن هنا أطلق صيحته فقال بجموع السائرين إلى الله سبحانه: "أسرع إلى الأساس، فإذا أحكمته أسرِع إلى البناء.. الأساس الفقه في الدين، فقه القلب، فقه القلب يقربك إلى الحق عز وجل".

ثم يقول مستغربًا متعجبًا من أقوامٍ تجاوزوا الأساس إلى البناء: "كيف تدعو الناس إلى بيتك، وما هيَّأت لهم طعامًا؟! هذا الأمر يحتاج إلى أساس، ثم يكون بعد ذلك البناء، احفر أرض قلبك إلى أن ينبع فيه ماء الحكمة، ثم ابنِ الإخلاص والمجاهدات والأعمال الصالحات إلى أن يرتفع قصرك، ثم ادع الناس إليه بعد ذلك، اللهم أحيِ أجساد أعمالنا بروح إخلاصك، إيش تنفعك الخلوة عن الخلق، والخلق في قلبك؟!".

نعم، وهذه والله حقيقة نعيشها، وواقع نعاني مرارتَه، وشدة نقاسي مرارتَها وآلامَها.. أن يعتنيَ السائر بظاهره ويهمل باطنه.. أن ترفرف راية الأقوال وتخفض رايات الأعمال.. أن يتقدم فقه اللسان وينكص فقه القلب..!!

فكم من السائرين لسان أحدهم ورِعٌ وقلبه فاجر؟! ولمثل هؤلاء قال: ".. لسانك بحمد الله- عز وجل- وقلبك يعترض عليه، زهدك على ظاهرك، دينك على ظاهرك، وباطنك خراب، إذا كنت هكذا خيَّم الشيطان على قلبك، وجعله مسكنًا له..".

ثم يؤكد أن المؤمن يبتدئ بعمارة باطنه، ثم بعمارة ظاهره، كالذي يعمل دارًا، ينفق على الداخل منها مبالغ من المال، وبابها خراب، فإذا كمل عمارتها، بعد ذلك يعمل بابها".

نعم، بدون القلب وفقهه لن تصل أبدًا، وإن كثُر العمل، وتعددت أبوابه، وتنوعت أساليبه، وكثرت ميادينه، "عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات هيهات، أنت سكران بغير شراب!!".

ما أكملك لو بادرت أمَلك..

ما أجلَّك لو بادرت أجَلك..

ما أقواك لو خالفت هواك..

فطريقك إلى الكمال والجلال والقوة يكمن في فقهٍ صحيح للقلب، والتفاتةٍ صادقةٍ إلى الباطن، فقه القلب يقربك إلى الحق..!!